دعوى وجوب فصل الدين الإسلامي عن سياسة الدولة في التشريعات الحديثة
وجوه إبطال الشبهة:
1) فصل الدين عن الدولة له جذور تاريخية، وأبعاد سياسية لا علاقة لها بالتشريع الإسلامي وأصالته.
2) طبيعة الدين الإسلامي لا ترتضي فصله عن الدولة، فهو الدين الخاتم المهيمن على الشرائع السابقة والناسخ لها، وشريعته متكاملة وافية بجميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس، فهي منظومة متكاملة تشمل جميع شئون حياتهم.
3) الشمول من الخصائص التي تميز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، فهو شمول يستوعب الزمان كله، والحياة كلها، بل كيان الإنسانية كله.
4) النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته، وفي حقيقته هذه يختلف عن الشمول في الأنظمة الأخرى التي تتسم بالتسلط والقهر لأبنائها.
التفصيل:
أولا. ظهور فكرة فصل الدين عن الدولة لا علاقة لها بالإسلام:
إن ظهور فكرة فصل الدين عن الدولة لا علاقة لها بالإسلام على الإطلاق؛ لأنها ظهرت في أوربا في سياق تاريخي خاص يحدثنا عنه الأستاذ عادل عباس قائلا: “ظهرت وتبلورت فكرة فصل الدين عن سياسة الدولة في أوربا… التي مرت عبر تاريخها الطويل بحروب وصراعات حادة ومريرة، أوصلت المجتمعات الأوربية – بل والقارة كلها – إلى حافة الفوضى والاضطراب، وقد مر هذا الصراع ما بعد مرحلة اللاعقلانية بثلاث أحقاب تاريخية مختلفة:
- عصور الإمبراطورية الرومانية القديمة وفيه ظهرت نواة الدين المسيحي.
- العصور الوسطى المسيحية التي تميزت بثنائية العلاقة ما بين الدولة والدين “الكنيسة”.
- عصور النهضة الفكرية والعلمية والاقتصادية في أوربا؛ حيث تبلورت وطبقت فيها فكرة فصل الدين عن الدولة، وتطورت بعد ذلك إلى العلمانية بمفهومها الواسع.
في الحقبة الأولى: لم ترتبط الإمبراطورية الرومانية القديمة – التي تعتبر لأوربا مثالا يحتذى بخصوص مفهوم الدولة والقانون والفلسفة – بأي سيطرة دينية، والتي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، وتميزت ببروز فلاسفة كبار، مثل: سقراط الحكيم وأفلاطون وأرسطو، وكان تماسك الإمبراطورية الرومانية الواسعة المساحة يعتمد على مؤسسات الدولة والقانون وقدرات الجيش الروماني العسكرية، وعلى إدارة مركزية فعالة، وكذلك على الوعي الحضاري لشعوب الإمبراطورية، وقد أظهر الجيش الروماني في غزواته العسكرية الواسعة كثيرا من التسامح حيال المعتقدات الدينية للشعوب المحتلة.
ظهرت الديانة المسيحية آنذاك بين مجموعة صغيرة في أطراف الإمبراطورية الرومانية، وأخذت في الانتشار السريع بعد موت النبي عيسى – عليه السلام – الذي أصبح حيا في نفوس الآلاف من الناس، واتسعت رقعة الدين المسيحي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ” أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله “؛ ليصبح بعد مئات السنين جزءا من الاضطهاد والملاحقة الدموية… فمن أراد أن يكون مواطنا في هذه الإمبراطورية كان عليه أن يكون مسيحيا.
الحقبة الثانية: بدأت بحلول القرن الخامس بعد الميلاد، وتميزت بتبلور دور الكنيسة البابوية وزيادة تأثيرها على عامة الناس؛ بحيث وصل مستوى نفوذها إلى نفس مستوى نفوذ القيصر، وفي هذه الحقبة أصبحت العلاقة بين الطرفين – الدولة والكنيسة – علاقة تكاملية يعتمد فيها الواحد على الآخر، ويشكلان سويا قوة كبيرة لا تضاهيها أي قوة أخرى.
إن السلطة القيصرية والسلطة الربانية للكرادلة[1] والأساقفة[2] هما القوتان اللتان حكمتا العالم آنذاك، وفي عام 1122م جرى الاتفاق بين البابا والقيصر على توقيع وثيقة “Concordat” تنظم عمل الطرفين، وعلى ضوء هذا الاتفاق جرى تنظيم حملات الحروب الصليبية التي كانت من أكثر مراحل التبشير والتوسع دموية وقساوة، وفي هذه الحقبة كان التطور الثقافي والعلمي بطيئا، عانى فيه المفكرون القتل والاضطهاد والملاحقة,و في الجانب الآخر أصبح الطرفان قوة كبيرة وقاسية جدا؛ بحيث استحوذا على معظم الأراضي الزراعية والسكنية مع نظام إقطاعي[3] صارم، بالمقابل كان هناك – وفي كل أوربا – تنام مستمر للمعارضة ضد القيصر والكنيسة… في المدن كان هناك تقدم علمي وثقافي وتقني بها، يقابله تنام مستمر وازدهار للبرجوازية[4] والحرفيين الذين بدأوا يطالبون بحرية اقتصادية أكبر مدعومين من أمراء المقاطعات المختلفة.
أما داخل الكنيسة فكانت المعارضة ضد الكرادلة والأساقفة الأغنياء قد وصلت إلى أعلى حد، وبالذات من الأساتذة المتنورين العاملين في الكنيسة نفسها، مثل: مارتن لوثر(1483م – 1546م)، الذي بدأ حركته الإصلاحية في ألمانيا عام 1517م، كان لوثر يرى في الغنى الفاحش والقدسية المعصومة عن الخطأ للبابا شيئا يتناقض وتعاليم الدين المسيحي التي جاءت لإنقاذ الفقراء والمستضعفين، كما أعلن وقوفه ضد صكوك الغفران التي كانت الكنيسة تبيعها على العامة باعتبارها خدعة هدفها كسب الأموال ليس إلا… في مثل هذه الظروف اتحدت مصالح المعارضة البروتستانتية[5] داخل الكنيسة مع مصالح الفلاحين الذين عانوا الأمرين من النظام الإقطاعي ومصالح حرفيي المدن الآخذة بالاتساع,و كان السؤال الذي طرح نفسه آنذاك، إلى جانب من يقف القيصر؟
قرر القيصر الوقوف إلى جانب الكنيسة، ودخلت أوربا بعد هذا القرار حربا دينية ضروسا بين الكاثوليك والبروتستانت في وسط أوربا، والتي دامت مائة عام، كانت مخلفاتها كارثة على شعوب أوربا كلها، ولكن في الجانب الآخر ولدت القناعة لدى الأطراف المتحاربة بضرورة تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، ورفض التزمت في الآراء ومحاولة فرضها بالإكراه على الطرف الآخر.
أما الحقبة الثالثة: فمهمة جدا في تاريخ أوربا الحديثة – والتي قامت على أنقاض الحروب الدينية الدموية – فإنها تمثل عهد التنوير[6] – القرن السادس والسابع عشر – والتطور العلمي والثقافي، وبروز مفكرين ورواد تنوير كبار أمثال: جون لوك (1632 – 1704)، وإيمانويل كانط (1724 – 1804)، وفولتير (1694 – 1778)، وآدم سميث (1723 ـ1790) وغيرهم من الذين جعلوا من الإنسان قيمة بحد ذاته.
في هذه المرحلة جرى التأكيد والدعوة لبناء منظومة من التعاليم دعت إلى التسامح والمساواة في الحقوق بين الأديان المختلفة، إن تحكيم العقل واعتماد التطور العلمي والثقافة والفلسفة بدلا من العقلية الغيبية أو الميتافيزيقية، كانت الصفة المميزة لهذه المرحلة، والتي بدأت تأخذ مساحة كبيرة في التأثير على سياسة الدولة.
وكانت الولايات المتحدة منذ بداية تكونها – 1776م – دولة علمانية، فقد كان الدستور الأمريكي لسنة 1789م من الدساتير الأولى التي أقرت بأن الدين مسألة شخصية، وجرى الفصل بين الدين والدولة، مع التأكيد على حرية واحترام الأديان باعتبارها إحدى حقوق الإنسان الأساسية، أما في فرنسا فقد كان مبدأ فصل الدين عن الدولة إحدى نتائج الثورة الفرنسية (1789)؛ حيث حسم الأمر بأن فقدت الكنيسة – باعتبارها ممثلة للنظام الإقطاعي والتعصب الديني – ليس سطوتها فحسب، بل فقدت أيضا سيطرتها على ممتلكاتها من الأراضي، وكان من تداعيات هذه التطورات أن بدأت المجتمعات الأوربية تخطو بشكل حثيث باتجاه تثبيت هذا المبدأ في دساتيرها، والذي كان يمثل بحق بدايات الحكم المدني، لقد استطاع العالم الأوربي أن يبني منظومة سياسية واقتصادية وثقافية متطورة بعيدة عن التأثير المباشر للدين، وأخذ تأثير التنوير والحداثة[7] والعقلانية[8] يدفع بجذوره عميقا داخل المجتمع[9].
وعلى هذا يتأكد لنا أن فصل الدين عن الدولة موضوع لا علاقة له بالدين الإسلامي، فهو في جذوره وأصل منشئه نابع عن دين آخر ومجتمع آخر وظروف أخرى.
وعليه؛ فالإسلام لا يمكن أن يحمل على عاتقه هذه القضية التي نبتت في غير أرضه ورعاها غير أبنائه، فلا فصل للدين عن الدولة في ظل الإسلام.
ثانيا. طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة:
طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة، فهو يحمل في طياته كل صغيرة وكبيرة عن أمور الإنسان على مدار الزمن من قبل ميلاده إلى ما بعد وفاته، وفي جميع أحواله (فردا ومجموعة ودولة وأمة) وإذا تساءل متسائل: لماذا يحمل الإسلام في طياته كل هذا؟
نقول: إن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وأخبر أنه لا يقبل من أحد سواه، قال عز وجل: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19)، وقال عز وجل: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)( (آل عمران)، وشريعة الإسلام هي الشريعة المهيمنة الناسخة لما قبلها من الشرائع، وقد أمر الله أن يكون الاحتكام ورد النزاع إليها، فقال عز وجل: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم( (المائدة48)، ومنع أهل الإسلام من اتباع شيء غير شريعته، فقال عز وجل: )اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء( (الأعراف: 3)، وهذا يعني أن الشريعة وافية بجميع الأحكام التي يحتاجها الناس، وأنها تنظم جميع شئون حياتهم، وإلا لما أحال الله إليها وحرم اتباع غيرها.
فالشريعة لا تشتمل على المسائل والأحكام التي يحتاجها الناس من الشعائر التعبدية؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقط، بل إنها تنظم أمور الحياة كلها من سياسة واقتصاد واجتماع وغير ذلك، فكيف ينكر شمول الدين للسياسة وحكمه فيها وخضوعها له؟!
ومن تأمل القرآن والسنة – اللذين هما أصل هذه الشريعة – رأى شمولهما لجميع ما ذكر:
- ففي القرآن والسنة ذكر الشعائر التعبدية من صلاة وغيرها.
- وفيهما بيان طبيعة الحكم والتشريع، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، من وجوب الطاعة بالمعروف، وحق الأمة في الاختيار، وبيان حالات العزل وغير ذلك.
- وفيهما بيان أحكام العلاقات الدولية من حرب وسلم وهدنة، وبيان أحكام الجهاد، ومراحله وأهدافه، وأحكام البلدان المفتوحة وطريقة التعامل مع أهلها.
- وفيهما بيان أحكام الجنايات والحدود، كحد الردة والزنا والسرقة والخمر والقصاص وغير ذلك.
- وفيهما تنظيم شئون الاقتصاد، وبيان ما يحل وما يحرم من المعاملات، وطرق الاستثمار المباحة.
- وفيهما تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، وداخل الأسرة، وبين الرجل وزوجته.
وبالجملة فما من حكم شرعي يحتاجه رجل أو امرأة أو صغير أو كبير أو حاكم أو محكوم في شأن عبادة أو معاملة داخلية أو خارجية إلا وبيانه وتفصيله موجود في هذه الشريعة بمصدريها الأساسين – القرآن والسنة – وما تفرع عنهما من إجماع وقياس، أو غيرهما من الأدلة المعتبرة.
ومن رأى القرآن مصدرا صالحا لتلقي أحكام العبادات دون المعاملات، أو أحكام العبادات والمعاملات دون الجنايات والحدود، فقد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وهذه هي العلمنة الصريحة، والردة السافرة، كما قال الله عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة).
على أنه ينبغي أن نفرق بين الإسلام بشريعته الشاملة الكاملة، وبين ممارسات بعض المسلمين وأخطائهم، فإن وجد من يعتقد شمول الإسلام للعبادة والسياسة، والدين والدولة، ويدعو إلى ذلك، مع اتصافه بالنفاق والكذب، فهذا لا يكون مسوغا ومبررا في القدح والطعن في صحة ما يدعو إليه، بل الواجب دعوته إلى أخذ الدين كله، وتحذيره من مخالفة شيء منه، سواء في أبواب العبادات أو المعاملات أو السياسة أو سائر شئونه.
وقد كان بين المسلمين في العهد الأول من ينسب إلى الإسلام وهم منافقون كافرون، يتربصون بالمسلمين الدوائر، لكن وجود هؤلاء لم يكن ليسوغ لأحد أن يتهجم على الإسلام ومبادئه وثوابته.
ومن الثابت تاريخيا وواقعيا أن كل دين ونحلة ومذهب، يتفاوت أهله في صدقهم والتزامهم.
ثالثا. الشمول من أهم الخصائص التي تميز الإسلام عن الأديان والفلسفات الأخرى:
الشمول من الخصائص التي تميز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، هذا الشمول يستوعب الزمان والمكان والحياة الإنسانية، وكيف لا؟ ورسالة الإسلام امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة، وحول طبيعة الإسلام الشمولية وعناصر هذا الشمول يقول د. يوسف القرضاوي: هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور، ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم، كما يأتي:
- شمول العقيدة الإسلامية:
إن المستقرئ لنصوص الشرع الحنيف ليجد أن العقيدة الإسلامية شاملة شمولا لا لبس فيه لكل جوانب الحياة.
يقول د. يوسف القرضاوي متحدثا عن هذا الشمول: فالعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها؛ فهي توصف بالشمول باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود؛ القضايا التي شغلت الفكر الإنساني ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل[10] المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية.. قضية الكون.. قضية الإنسان.. قضية النبوة.. قضية المصير.
فإذا كانت بعض العقائد تعنى بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة دون قضية الجزاء الأخروي، فإن عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح، ووضوح شامل.
- وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول كذلك؛ لأنها لا تجزئ الإنسان بين إلهين اثنين؛ إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة – كما كان في المجوسية -، أو بين الله والشيطان الذي سمي في الأناجيل باسم “رئيس هذا العالم” واسم “إله هذا الدهر”، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا، ولله ملكوت السموات، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعا لعمل “أهريمان” إله الظلام في المجوسية.
إن الشيطان في نظر الإسلام، يمثل قوة الشر لا مراء، ولكنها قوة لا سلطان لها على ضمير الإنسان، إلا سلطان الوسوسة والإغراء، والدعوة إلى الشر وتزيينه في الأنفس؛ فهذا مبلغ كيده وجهده، وهو كيد ضعيف أمام يقين المؤمنين المعتصمين بالله المتوكلين عليه.
يقول الله – عز وجل – على لسان الشيطان نفسه في مخاطبة من أغواهم: )وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي( (إبراهيم: 22)، ويقول – عز وجل – في مخاطبة الشيطان: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء)، ويقول عز وجل: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)( (النحل)، ويقول عز وجل: )إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)( (النساء).
- وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول من ناحية أخرى، و هي أنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضا باتا، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: اعتقد وأنت أعمى.
وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو شأن معظم الفلسفات البشرية التي تتخذ العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله وحل ألغاز الوجود.
وإنما تعتمد على الفكر والشعور معا، أو العقل والقلب جميعا، باعتبارهما أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.
إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة.
- وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول أيضا؛ لأنها عقيدة لا تقبل التجزئة، لا بد أن تؤخذ كلها بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك في أي جزء منها، فمن آمن بـ 99% من مضمون هذه العقيدة، وكفر بـ 1% لم يعد بذلك مسلما، فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قياده كله لله، ويؤمن بكل ما جاء من عنده.
فلا يجوز في نظر العقيدة الإسلامية، أن يقول مسلم: أنا مؤمن بالقرآن الكريم في شأن الشعائر والعبادات – مثلا – ولكن لا أومن بما جاء به في شأن الأخلاق والآداب، أو يقول: آخذ من القرآن العبادة والأخلاق، ولكن لا أستمد النظام والتشريع، أو آخذ منه ذلك كله، ولكن لا أصدقه في كل ما يرويه من أحداث التاريخ، أو أصدقه وأسلم له في كل ما ذكرناه، ولكن لا أعتقد بحقيقة ما جاء به في وصف الآخرة، وحقيقة الجنة والنار.
ومن ثم أنكر القرآن أشد الإنكار على بني إسرائيل إيمانهم ببعض الرسل دون بعض، وببعض الكتاب الإلهي دون بعض، يقول عز وجل: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)( (النساء)، ويقول عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة) [11].
- شمول العبادة في الإسلام:
إن العبادة في الإسلام تتمتع أيضا بخاصية الشمول, ويفصل د. القرضاوي القول فيها قائلا: وتتمثل ظاهرة الشمول الإسلامي في عبادته كما تمثلت في عقيدته.
فالعبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله؛ فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها، بل يعبد الله بهذه كلها؛ بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته سبحانه.
إن عبادة كالصلاة تتجلى فيها عبادة اللسان بالتلاوة والتكبير والتسبيح والدعاء، وعبادة الجسم بالقيام والقعود، والركوع والسجود، وعبادة العقل بالتفكر والتأمل في معاني القرآن وأسرار الصلاة، وعبادة القلب بالخشوع والحب لله، والشعور بمراقبة الله.
ومعنى آخر للشمول في العبادة، وهي أنها تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.
فالجهاد في سبيل الله دفاعا عن الحق، وذودا عن الحرمات، ومنعا للفتنة، وإعلاء لكلمة الله… عبادة لا تعدلها عبادة.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «مر رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشعب فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب – يعني لأتعبد – ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله – عز وجل – أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة[12] وجبت له الجنة»[13].
وكل عمل نافع يقوم به المسلم لخدمة المجتمع أو مساعدة أفراده خصوصا الضعفاء وذوي الحاجة والفاقة منهم، هو كذلك عبادة.
من ذلك ما جاءت به الأحاديث الكثيرة التي تحث على الصدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، حتى جعلت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وحمل الرجل الضعيف على دابته صدقة، بل تبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل معروف صدقة.
ويدخل في دائرة العبادة: سعي الإنسان على معاشه ومعاش أسرته، ليغنيهم بالحلال، ويعفهم عن السؤال؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – قد اعتبر من فعل ذلك ” في سبيل الله “,أي في جهاد كجهاد الميدان وقتال أعداء الله.
وأكثر من ذلك أنه جعل من وضع شهوته في حلال له بها أجر، ولما عجب الصحابة من ذلك، قال لهم النبي: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[14] [15].
- شمول الأخلاق في الإسلام:
امتازت الأخلاق في الإسلام بشمول فاق كل ما جاءت به فلسفة الأخلاق عبر مراحلها المختلفة، يقول د. يوسف القرضاوي: ويبرز الشمول كذلك في ميدان الأخلاق والفضائل؛ فالأخلاق الإسلامية ليست هي التي تعرف عند بعض الناس بـ “الأخلاق الدينية” التي تتمثل في أداء الشعائر التعبدية، واجتناب أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك لا غير؛ إنها أخلاق تسع الحياة بكل جوانبها وكافة مجالاتها.
إن الأخلاق في الإسلام لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية – روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية – إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فما فرقه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه قانون الأخلاق في الإسلام في تناسق وتكامل وزاد عليه.
- إن من أخلاق الإسلام ما يتعلق بالفرد في كافة نواحيه:
o جسما له ضروراته وحاجاته بمثل قوله عز وجل: )وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن لجسدك عليك حقا».[16]
o وعقلا له مواهبه وآفاقه، يقول عز وجل: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)( (يونس)، وقال عز وجل: )قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا( (سبأ: 46).
o ونفسا لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها، يقول الله عز وجل: )قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10)( (الشمس).
- ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالأسرة:
o كالعلاقة بين الزوجين، يقول الله عز وجل: )وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)( (النساء).
o وكالعلاقة بين الأبوين والأولاد، قال عز وجل: )ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا( (الأحقاف: 15)، وقال عز وجل: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31)( (الإسراء).
o وكالعلاقة بين الأقارب والأرحام، قال عز وجل: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى( (النحل: 90)، وقال عز وجل: )وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26)( (الإسراء).
- ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالمجتمع:
o في آدابه ومجاملاته، مثل قوله عز وجل: )لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)( (النور).
o وفي اقتصاده ومعاملاته، قال عز وجل: )ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3)( (المطففين)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل( (البقرة: 282).
o وفي سياسته وحكمه، قال عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58).
ومن أخلاق الإسلام، ما يتعلق بغير العقلاء من الحيوان والطير، كما في الحديث: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة». [17] وفي حديث آخر: «وفي كل كبد رطبة أجر»[18].
ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالكون الكبير:
من حيث إنه مجال التأمل والاعتبار والنظر والتفكر والاستدلال بما فيه من إبداع وإتقان، على وجود مبدعه وقدرته، وعلى علمه وحكمته، كما قال عز وجل: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك( (آل عمران).
ومن حيث إنه مجال للانتفاع والاستمتاع بما أودع الله فيه من خيرات وما بث فيه من قوى مسخرة لمنفعة الإنسان، وما أسبغ من نعم، تستوجب الشكر لواهبها والمنعم بها، كما قال عز وجل: )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة( (لقمان: 20)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله( (البقرة: 172).
وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد، قال عز وجل: )الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6)( (الفاتحة)، فهو وحده الحقيق بأن يحمد الحمد كله، وأن ترجى رحمته الواسعة، وأن يخشى عقابه العادل يوم الجزاء، وهو وحده الذي يستحق أن يعبد ويستعان به وأن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
وبهذا يتجلى شمول الأخلاق الإسلامية، من حيث موضوعها ومحتواها، ولكن الشمول في الأخلاق الإسلامية يبدو كذلك إذا نظرنا إلى فلسفتها ومصدر الإلزام بها.
لقد شاء الله للإسلام أن يكون الرسالة العامة الخالدة، فهو هداية الله للناس كافة، من كل الأمم، وكل الطبقات، وكل الأفراد، وكل الأجيال، والناس تختلف مواهبهم وطاقاتهم الروحية والعقلية والوجدانية، وتتفاوت مطامحهم وآمالهم، ودرجات اهتمامهم؛ ولهذا جمعت الفكرة الأخلاقية في الإسلام ما فرقته الطوائف الدينية والمذاهب الفلسفية – مثالية وواقعية – في نظرتها إلى الأخلاق وتفسيرها لمصدر الإلزام الخلقي، فلم يكن كل ما قالته هذه المذاهب والنظريات باطلا، كما لم يكن كله حقا, إنما كان عيب كل نظرية أنها نظرت من زاوية، وأغفلت أخرى، وهو أمر لازم لتفكير البشر، الذي يستحيل عليه أن ينظر في قضية ما نظرا يستوعب كل الأزمنة والأمكنة، وكل الأجناس والأشخاص، وكل الأحوال والجوانب، فهذا يحتاج إلى إحاطة إله عليم حكيم.
فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام جامعة محيطة مستوعبة؛ لأنها ليست نظرية بشر؛ بل وحي من أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.
لهذا أودع الله في هذا الدين ما يشبع كل نهمة معتدلة، وما يقنع كل ذي وجهة، ويلائم كل تطور، فمن كان مثاليا ينزع إلى الخير لذات الخير، وجد في أخلاقية الإسلام ما يرضي مثاليته، ومن كان يؤمن بمقياس السعادة، وجد في الفكرة الإسلامية ما يحقق سعادته وسعادة المجموع معه، ومن كان يؤمن بمقياس المنفعة – فردية أو اجتماعية – وجد فيه ما يحقق طلبته، ومن كان همه التكيف مع المجتمع، وجد فيه ما يلائم اجتماعيته، حتى الذي يؤمن بأهمية اللذة الحسية يستطيع أن يجدها فيما أعد الله للمؤمنين في الجنة من نعيم مادي، ومتاع حسي، قال عز وجل: )وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71)( (الزخرف).
وبهذا تسمع كل أذن الأنشودة التي تحبها، وتجد كل نفس الأمنية التي تهفو إليها[19].
- شمول التشريع في الإسلام:
أما التشريع الإسلامي فهو من أهم الأشياء التي تصيب دعوى فصل الدين عن الدولة في المقتل، على اعتبار أنه تشريع شامل محيط بكل ما يتعلق بالإنسان.
يقول د. يوسف القرضاوي”: والتشريع في الإسلام تشريع شامل كذلك، إنه لا يشرع للفرد دون الأسرة ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منعزلا عن غيره من المجتمعات، وبيان ذلك كالآتي:
- إن تشريع الإسلام يشمل التشريع للفرد في تعبده وصلته بربه، وهذا ما يفصله قسم ” العبادات ” في الفقه الإسلامي، وهو ما لا يوجد في التشريعات الوضعية.
- ويشمل التشريع للفرد في سلوكه الخاص والعام، وهذا يشمل ما يسمى “الحلال والحرام” أو “الحظر والإباحة”.
- ويشمل التشريع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقات ورضاع وميراث، وولاية على النفس والمال ونحوهما، وهذا يشمل ما يسمى في عصرنا “الأحوال الشخصية”.
- ويشمل التشريع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، بعوض أو بغير عوض، من البيوع والإجارات[20] والقروض والمداينات والرهن[21] والحوالة[22] والكفالة[23] والضمان[24] وغيرها، مما تتضمنه في عصرنا القوانين المدنية والتجارية.
- ويشمل التشريع ما يتصل بالجرائم وعقوباتها المقدرة شرعا، كالحدود والقصاص، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعازير، وهذا يشمل ما يسمى الآن بـ “التشريع الجنائي” أو “الجزائي”, و “قوانين العقوبات”.
- ويشمل التشريع الإسلامي ما يتعلق بواجب الحكام نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، مما عنيت به كتب السياسة الشرعية والخراج، والأحكام السلطانية في الفقه الإسلامي، وتضمنه في عصرنا “التشريع الدستوري” أو “الإداري” و”المالي”.
- ويشمل التشريع الإسلامي ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب، بين المسلمين وغيرهم، مما عنيت به كتب السير أو الجهاد في فقهنا الإسلامي، وما ينظمه في عصرنا الحالي ” القانون الدولي “.
ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلا دخل فيها التشريع الإسلامي آمرا أو ناهيا أو مخيرا.
وحسبنا أن أطول آية نزلت في كتاب الله – عز وجل – نزلت في تنظيم شأن من الشئون المدنية، وهو المداينة، وكتابة الدين.
ويبدو شمول التشريع الإسلامي في أمر آخر، أو بعد آخر، وهو النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة مستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، وربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية، بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولا[25] لهدمها.
ومن عرف هذا جيدا، استطاع أن يفهم موقف التشريع الإسلامي وروعته من قضايا كثيرة، كالطلاق، وتعدد الزوجات، والميراث، والربا، والحدود والقصاص، وغيرها، مما أثبتت الدراسات المقارنة، وأثبت الاستقراء التاريخي والواقعي فضل الإسلام فيه، وتفوقه على كل تشريع سابق أو لاحق.
إن عيب البشر الذي هو من لوازم ذواتهم المحدودة أنهم ينظرون إلى الأمور والأشياء من جانب واحد، غافلين عن جانب أو أكثر من جوانبها الأخرى، والحقيقة أنه لا ذنب لهم في هذا القصور ولا حيلة؛ لأن النظرة المحيطة الشاملة، التي تستوعب الشيء من جميع جوانبه، وتعرف كل احتياجاته، وتدرك كل احتمالاته وتوقعاته، لا يقدر عليها إلا رب البشر وخالق الكون، قال عز وجل: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
- شمول الالتزام بالإسلام كله:
إن خاصية الشمول في الإسلام تستغرق كل صغيرة وكبيرة، وتبعا لذلك ألزم المسلم بأن يأخذه جملة، ولا يجوز أن يقوم بعملية الانتقاء.
يقول د. يوسف القرضاوي في هذا الصدد: هذا الشمول الذي تميز به الإسلام – بحيث استوعب الحياة كلها، والإنسان كله، في كل أطوار حياته، وفي كل مجالات حياته – يجب أن يقابله شمول مماثل من جانب التزام المسلمين؛ أعني الالتزام بهذا الإسلام كله في شموله وعمومه وسعته، فلا يجوز الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه، وطرح جانب آخر، أو جوانب أخرى منها، قصدا أو إهمالا؛ لأنها “كل” لا يتجزأ.
فلا يجوز في نظر الإسلام أخذ جانب العقيدة والإيمان من تعاليمه، وإغفال جانب العبادة أو الأخلاق، كالذين قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فإن عمل الصالحات مكمل للإيمان، وسياج له، وثمرة لازمة للإيمان الصادق، كما بين ذلك القرآن والسنة، قال عز وجل: )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا( (الأنفال).
ولا يجوز في نظر الإسلام العناية بالعبادات والشعائر، وإهمال جانب الأخلاق والفضائل؛ لأن الفضائل الأخلاقية من شعب الإيمان الحق، وثمرة للعبادة الصحيحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».[26] وقال عز وجل: )وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( (العنكبوت: 45)، وفي الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».[27] وفي رواية: «أية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»[28].
ولا يجوز في نظر الإسلام كذلك الاهتمام بالجانب الأخلاقي، وإغفال الجانب التعبدي؛ فإن الناس إنما خلقوا ليعرفوا الله ويعبدوه قال عز وجل: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات)، وإنما يعبد الله – عز وجل – بما شرع وفرض من شعائر وفرائض اعتبرها رسوله – صلى الله عليه وسلم – الأركان التي بني عليها الإسلام.
وأول خلق يجب أن يتحلى به المسلم هو الوفاء لله بعهده، وشكر نعمته، وأداء أمانته، وذلك بأداء حقه الذي افترضه على عباده من صلاة وزكاة وصيام وحج، قال عز وجل: )ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)( (آل عمران).
ولا يجوز في نظر الإسلام الأخذ بكل ما ذكر من عقيدة وعبادة وأخلاق، مع إغفال جانب الشريعة التي نظم الله بها حياة الخلق، وأنزل بها الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، فلا يحل لمن يؤمن بعدل الله – عز وجل – وكمال علمه وحكمته وبره بخلقه أن يدع شرع الله عمدا؛ ليحكم بشرائع البشر الممثلة لقصورهم وأهوائهم.
ولهذا حذر الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – وبالتالي كل حاكم من بعده – ألا يدع ما شرعه الله فقال تعالى: )بعض ما أنزل الله( (المائدة: 49)، تأثرا بأهواء الآخرين وفتنتهم، فإن من ترك حكم الله سقط لا محالة في حكم الجاهلية ولا ثالث لهما، قال عز وجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)( (المائدة) [29].
آثار هذا الشمول في النفس والحياة:
إن هذا الشمول الذي يستوعب الحياة الإنسانية بكل كيانها وحيثياتها ومظاهرها، والذي يميز الدين الإسلامي عن غيره، ولكن هذا الشمول له أثر بالغ في الفرد المسلم في عبادته؛ فالدين كله عبادة، والدين جاء ليرسم للإنسان منهج حياته ويحدد سلوكه وعلاقاته وفقا لما يهدي إليه المنهج الإلهي.
وعن أثر هذا الشمول في العبادة، يذكر د. يوسف القرضاوي أبرز هذه الآثار فيقول: إن شمول معنى العبادة في الإسلام له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته، ويلمسها في غيره، ويرى ظلالها في الحياة من حوله، وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:
- أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدودا إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع، وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله – عز وجل – كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه هدية إلى ربه – عز وجل – ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
- أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحدا في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته.
إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون المجتمع في النهار…، كلا.. إنه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان، فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال ولا زمان، قال عز وجل: )ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه( (البقرة:115).
وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات، والتيارات والانقسامات.
إن حياته كلها وحدة لا تتجزأ، منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله، ودليله وحي الله.
وكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله، فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن.
المسلم يتعبد لله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصايرة الأمم وأحداث التاريخ وما فيها من عظة وعبرة.
ويتعبد المسلم لله بالقلب عن طريق العواطف الربانية والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته، والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له. ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير.
ويتعبد المسلم ببدنه كله: إما كفا وامتناعا عن ملذات البدن وشهواته، كما في الصيام، وإما حركة وعملا ونشاطا، كما في الصلاة التي يتحرك فيها البدن كله: اللسان والأعضاء مع العقل والقلب.
ويتعبد المسلم لله ببذل المال الذي هو شقيق الروح، كما في الزكاة والصدقات، وهذا ما يسميه الفقهاء “العبادة المالية”، كما سموا الصلاة والصوم “العبادة البدنية” ويعنون بكلمة “البدن” هنا كيان الإنسان كله لا الجسم المادي وحده، فإن النية شرط لكل عبادة، ومحلها القلب بالإجماع، وعبادة المجنون والسكران ونحوها لا تصح ولا تقبل، قال عز وجل: )حتى تعلموا ما تقولون( (النساء: 43).
ويتعبد المسلم لله بالتضحية بنفسه وبمصالحه المادية العاجلة، ابتغاء مرضاة الله، كما في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلي.
ويتعبد المسلم لله بمفارقة الأهل والوطن والضرب في الأرض: إما للحج والعمرة، وإما للهجرة إلى أرض يستطيع فيها المسلم إقامة دينه، وإما للجهاد في سبيل الله، وإما لطلب علم نافع، أو نحو ذلك، مما يبذل فيه المسلم – عادة – راحة بدنه وحر ماله، ولهذا نعتبر هذا النوع من العبادات “بدنيا وماليا” معا حسب التقسيم الفقهي المتعارف[30].
رابعا. النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته:
إن النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته، وهو يختلف في حقيقته عن الأنظمة الأخرى، أما القول بأن: لا دين في السياسة، فهذا كلام لا ينطبق على الإسلام، لأنه يعني أن السياسة لا دين لها، فلا تلتزم بالقيم والقواعد الدينية، وإنما هي “براجماتية” تتبع المنفعة حيث كانت، والمنفعة المادية، والمنفعة الحزبية أو القومية، والمنفعة الآنية، وترى أن المصلحة المادية العاجلة فوق الدين ومبادئه، وأن ” الله ” وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة.
وهي في الحقيقة تتبع نظرية “مكيافللي”، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن ” الغاية تبرر الوسيلة “، وهي النظرية التي يبرر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع، إلى آخر المبررات المعروفة، ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها حال البشر؟
إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قيم الدين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل، إن السياسة حين ترتبط بالدين، تعني: العدل في الرعية، والقسمة بالتسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوى، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع، كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة.
إن دخول الدين في السياسة ليس – كما يصوره الماديون والعلمانيون – شرا على السياسة، إن الدين الحق إذا دخل في السياسة، دخل دخول الموجه للخير، الهادي إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغي.
فهو لا يرضى عن ظلم، ولا يتغاضى عن زيف، ولا يسكت عن غي، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير، ويكرم السارق الكبير!
كما أنه جعل الحركة الإسلامية تشتغل بالعمل السياسي وتبذل فيه جهدا أكبر من غيره، فعندما كانت كل البلاد الإسلامية محتلة من الاستعمار الغربي انشغلت الحركة الإسلامية من الناحية السياسية بتجميع القوى وتعبئة الشعوب لتقاوم الاستعمار، ثم إن ظهور العلمانية جعل الحركة الإسلامية أيضا تستجمع قواها لتحارب هذا العدو الجديد.
كما أن عالمية الإسلام مرتبطة بشموله، الشمول المكاني والشمول الزماني والشمول الموضوعي؛ الشمول الزماني: فالإسلام دين الماضي والحاضر والمستقبل، والشمول المكاني: فالإسلام ليس مختصا بالشرق فقط ولا ببلاد العرب فقط، بل هو دعوة عالمية لا شك في عالميتها، والشمول الموضوعي: فهو يستوعب شئون الحياة كلها، فالإسلام عالمي، وهو بهذا جزء من الشمول ولا يتعارض هذا مع شمول الإسلام.
أما إن أردنا التفرقة بين شمولية الإسلام والأنظمة الشمولية، فلنقل ما قاله د. يوسف القرضاوي – في حديثه لبرنامج الشريعة والحياة – حول شمولية الإسلام: فالأنظمة الشمولية يقصد بها أنظمة الحكم القمعية التي تتدخل في حريات الناس، ولا تترك للناس حقا في حياتهم ولا تعطيهم حرية الاختيار؛ فالدولة تفرض عليهم كل شيء.
وليس هذا على الإطلاق بشمولية الإسلام؛ فالمعنى من شمولية الإسلام: شمولية الرسالة التي جاء بها الإسلام، فهي رسالة شاملة، تشمل الروحانية والمادية، وتشمل المثالية والواقعية، وتشمل توجيه الفرد وتوجيه الأسرة، وتوجيه الجماعة وتوجيه الأمة، وتوجيه الدولة، وتوجيه العلاقات بين الأمم والدول بعضها ببعض.
وهذا ما قاله الإمام حسن البنا: الإسلام هو الرسالة التي امتدت طولا حتى اشتملت آماد الزمن، امتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة؛ فهو من الناحية الطولية شمل الزمن كله.
إن الإسلام دين الأنبياء جميعا، قال عز وجل: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، فكل الأنبياء أعلنوا أنهم مسلمون، فهو شمل الزمن كله الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا نظرنا إليه من ناحية العرض نجده انتظم آفاق الأمم؛ لأنه رحمة الله للعالمين، قال عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، وقال عز وجل: )إن هو إلا ذكر للعالمين (104)( (يوسف)، وقال عز وجل: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم( (الأعراف: 158)، ليس رسالة للعرب وحدهم أو لأهل الشرق وحدهم، وهو أيضا من ناحية العمق رسالة استوعبت شئون الدنيا والأخرة.
وأما عن شمول الشريعة، فالإسلام والشريعة شيء واحد؛ لأن الإسلام عقيدة وشريعة، نقصد بالشريعة التشريعات العملية، ولكن أحيانا نقصد بالشريعة رسالة الإسلام، قال عز وجل: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها( (الجاثية: 18)، فحينما نقول: الشريعة نقصد بها الإسلام كله، ولذلك يقول الأصوليون: الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، فلا يخل فعل من أفعال المكلفين ولا واقع من الوقائع إلا ولله – عز وجل – فيه حكم من الأحكام الخمسة؛ إما فرض واجب، وإما مستحب، وإما حرام، وإما مكروه، وإما مباح، وأي عمل من الأعمال لا يخرج عن هذه الخمس؛ بمعنى أن الشريعة حاكمة عادلة، وهذا هو معنى الشمول.
الخلاصة:
من خلال العرض السابق يتضح أنه لا علاقة للإسلام بفصل الدين عن الدولة وذلك لأسباب:
- إن الجذور التاريخية لفصل الدين عن الدولة ترجع إلى أوربا، وبالتحديد إلى العصور الوسطى المسيحية منها، والتي مثلت فيها الكنيسة دور الدين، فأمسكت زمام أمر الدولة، فأبعدتها عن العلم والنهضة، مما أنشأ صراعا بين الدولة والكنيسة، انتهى بتحرر الدولة من قيود الكنيسة، وانطلاق المجتمع في عصور النهضة الفكرية والعلمية والاقتصادية، وهذا ثبت فكرة “فصل الدين عن الدولة”، وتطورت بعد ذلك إلى العلمانية، وهذا راجع – في أصله – إلى طبيعة الدور الذي لعبته الكنيسة في محاولة تقييد العقل، ومنع العلم والفكر.
- وهذا على العكس تماما من الدور الذي يقوم به الإسلام مع أبنائه؛ حيث كانت أول آية نزلت من القرآن ” اقرأ “، وامتلأ كتابه الخالد بآيات تدعو للذكرى والتفكر والعلم والعقل، فأية مقارنة تلك المنعقدة بين هذا الدين بجلاله وكماله، وبين ذاك الدين بما انطوى عليه من بعد عن العالم الخارجي؟!
- طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة، فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وشريعته هي الشريعة المهيمنة الناسخة لما قبلها من الشرائع، فهو لا يكمل دينا سابقا كما حدث بين الديانتين اليهودية والنصرانية، بل هو في ذاته مكتمل، عالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الإنسان من قبل ميلاده إلى ما بعد وفاته، وفي جميع أحواله (فردا ومجموعة ودولة وأمة)، ومن ثم فهو قد وفي بجميع الأحكام التي يحتاجها الناس، ونظم جميع شئون حياتهم.
- اشتمال الإسلام على كل جوانب الإنسان من: الروح والجسد والعقل، وكل جوانب الحياة الإنسانية للفرد وللأسرة وللمجتمع، والدولة والأمة والعالم بأسره من عبادات ومعاملات وعقائد وسياسة… إلخ، ولهذا الشمول آثار مباركة في النفس والحياة, يحسها الإنسان في ذاته ويلمسها في غيره,ويرى ظلالها في الحياة من حوله.
- لا يصح أن يفصل الإسلام عن الدولة؛ فالنظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته,وهو يختلف في حقيقته عن الأنظمة الأخرى,كما أن عالمية الإسلام مرتبطة بشموله,الشمول المكاني,والشمول الزماني,والشمول الموضوعي.
(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.
[1]. الكرادلة: جمع الكاردينال، وهو عضو أعلى هيئة تساعد البابا في إدارة الكنيسة الكاثولوكية، والمجلس الاستشاري يلي البابا في مرتبته مباشرة، والكرادلة هم الذين يختار البابا من بينهم.
[2]. الأساقفة: جمع أسقف، وهي رتبة دينية عند النصارى فوق رتبة القسيس، ودون رتبة البطريرك، والمطران.
[3]. الإقطاع: هو ما يقطعه ولي الأمر لنفسه أو لغيره من أرض أو غيرها من أي نوع من أنواع المال الثابت أو المنقول الذي لا يكون ملكا لأحد؛ لينتفع بها المقتطع له في زرع أو غرس أو بناء استغلالا أو تمليكا.
[4]. البرجوازية: كلمة فرنسية الأصل، أطلقت هذه الكلمة أصلا على سكان بعض المدن الفرنسية، ثم أطلقت بعد ذلك على كل طبقة اجتماعية ارتبطت تاريخيا من حيث نشأتها بالمدن أو القرى الكبيرة ذات الأسواق التجارية، على أن طبقة البرجوازية متميزة عن طبقتي العمال والنبلاء؛ لأنها ترمز إلى طبقة التجار وأصحاب الأعمال والمحلات العامة. وتطلق في الاشتراكية على أصحاب الطبقة الرأسمالية التي تملك وسائل الإنتاج.
[5]. البروتستانتية: فرقة من النصرانية احتجوا على الكنيسة الغربية باسم الإنجيل والعقل، وتسمى كنيستهم بـ “البروتستانية”؛ إذ يعترضون على كل أمر يخالف الكتاب وخلاص أنفسهم، وتسمى بـ “الإنجيلية” أيضا؛ إذ يتبعون الإنجيل دون سواه، ويعتقدون أن لكل قادر الحق في فهمه، فالكل متساوون ومسئولون أمامه.
[6]. التنوير: مصطلح ظهر في القرنين السادس عشر والسابع عشر تعبيرا عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية، كما يتضمن هذا الفكر نزعة مادية واضحة بعد إقصاء اللاهوت، وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلا من الفكر الغيبي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه. والإسلام لا يرفض التنوير الأوربي المبني على العقل الإنساني، ولكنه يرى أنه ليس كافيا، وهذا يعني أن التنوير في المفهوم الإسلامي أعم وأشمل من التنوير في الفهم الأوربي، ويمكن أن نقول: إن التنوير في الإسلام يقوم على دعامتين أساسيتين هما: دعامة الدين، ودعامة العقل.
[7]. الحداثة: مذهب فكري أدبي علماني، بني على أفكار وعقائد غربية خالصة؛ مثل: الماركسية والوجودية والفرويدية، والداروينية، وأفاد من المذاهب الفلسفية والأدبية التي سبقته؛ مثل: السريالية والرمزية…. وغيرهما، وتهدف الحداثة إلى إلغاء مصادر الدين.
[8]. العقلانية: مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وكذلك يرى إخضاع كل شيء في الوجود للعقل؛ لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه، وبرز ذلك المذهب في الفلسفة اليونانية على يد سقراط وأرسطو، وبرز في الفلسفة الحديثة على أيدي فلاسفة أثروا في الفكر البشري؛ مثل: ديكارت وغيرهم.
[9]. فصل الدين عن سياسة الدولة، عادل عباس الشيخلي، مجلة الحوار المتمدن، العدد 525 بتاريخ 26/ 6/ 2003 م, نقلا عن: Antje vollmer ” Religion und politik, kriche und staat in der europaischen Tradition. www. antje. vollmer. de “
[10]. النحلة: الدين والعقيدة.
[11]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص102: 105.
[12]. فواق الناقة: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.
[13]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9761)، والترمذي في سننه، كتاب فضائل الصحابة، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، (1650)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7379).
[14]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص 105: 107 بتصرف.
[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2376).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم (1874)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا (2787).
[17]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (2550)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب استحباب الإحسان إلى الدواب المركوبة في العلف والسقي (2540)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (104).
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2234)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب فضل ما في البهائم المحترمة وإطعامها (5996).
[19]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص107: 110 بتصرف يسير.
[20]. الإجارة: العقد على المنافع بعوض لمدة محدودة، وتمليك المنافع بعوض إجارة، وبغير عوض إعارة.
[21]. الرهن: جعل عين وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه. أو المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه.
[22]. الحوالة: نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
[23]. الكفالة: ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة بالحق؛ أي: ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بالحق.
[24]. الضمان: هو الالتزام؛ كأن تقول: ضمنت المال إذا التزمته، وضمنته المال إذا ألزمته إياه؛ ومنها الكفالة، ومنها التغريم، تقول: ضمنته الشيء تضمينا إذا غرمته إياه، ويطلق على التعويض، ويطلق على كفالة المال والنفس، ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتغيرات الطارئة، كما يطلق على ضمان المال والتزامه بعقد وبغير عقد، ويطلق على ما يجب بإلزام الشارع بسبب الاعتداءات؛ كالديات، والكفارات.
[25]. المعول: آلة من الحديد ينقر به الصخر.
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (9)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (161)، واللفظ له.
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (33)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (220).
[28]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (222).
[29]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص111: 114.
[30]. مدخل لمعرفة الإسلام, د. يوسف القرضاوي, مكتبة وهبة, القاهرة, ط3, 1422هـ/ 2001م, ص76: 79 بتصرف يسير.