نفي إعجاز القرآن العلمي في حديثه عن منازل القمر
وجه إبطال الشبهة:
أثبت العلم الحديث أن للقمر ثمانية وعشرين منزلاً، هي مواقعه اليومية المتتالية في السماء، ينزل فيها القمر على ثمانية أشكال هي: الهلال، التربيع الأول، الأحدب الأول، البدر، الأحدب الثاني، التربيع الثاني، الهلال الثاني، المحاق. وهذا يتطابق مع حديث القرآن عن منازل القمر التي قدرها الله سبحانه وتعالى؛ لمنافع الناس الدينية والدنيوية. ومن ثم؛ فالقول بأن الآية لا تحتوي على أية إشارة علمية قول عارٍ من الصحة.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
للقمر دورتان؛ الأولى: حول نفسه، والثانية: حول الأرض، والوقت فيهما متساوٍ تمامًا؛ ولذلك فأهل الأرض لا يرون من القمر إلا وجهًا واحدًا طوال الحياة؛ لأنه يدور حولها، وحول نفسه في وقت واحد، ويستكمل دورته حول نفسه في تسعة وعشرين يومًا، وثماني ساعات، ويستكمل دورته حول الأرض في الوقت نفسه (تسعة وعشرين يومًا وثماني ساعات).
لكن الشيء الذي يلفت النظر أن القمر يقطع في كل يوم من دائرة سيره في فلكه حول الأرض ثلاث عشرة درجة، ويتأخر في شروقه عن اليوم السابق تسعًا وأربعين دقيقة كل يوم، ولولا هذا التأخر لبدا القمر بدرًا طوال الحياة، ولكن تأخُّره تسعًا وأربعين دقيقة عن شروقه السابق، هو الذي يرينا القمر في مراتب، من هلال، إلى تربيع، إلى بدر، إلى عرجون إلى محاق([1]).
- منازل القمر في علم الفلك:
يدور القمر حول الأرض في مدار شبه دائري يبلغ طوله نحو 2,4 مليون كم تقريبًا، ويبلغ متوسط نصف قطره 384,400 كم، وفي أثناء هذه الدورة يقع القمر على خط واحد بين الأرض والشمس، فيواجه الأرض بوجه مظلم تمامًا، وتسمَّى هذه المرحلة باسم مرحلة الاقتران، ويعرف القمر فيها باسم المحاق، وتستغرق هذه المرحلة ليلة إلى ليلتين تقريبًا، ثم يبدأ القمر في التحرك؛ ليخرج من هذا الوضع الواصل بين مراكز تلك الأجرام الثلاثة، فيولد الهلال الذي يحدد بمولده بداية شهر قمري جديد، ويقع هذا الهلال في أول منزل من منازل القمر، ويمكن رؤيته بعد ساعات من ميلاده إذا أمكن مكثه لمدة لا تقل عن عشر دقائق بعد غروب الشمس، وكان الجو على درجة من الصفاء تسمح بذلك.
وباستمرار تحرك القمر في دورته البطيئة حول الأرض تزداد مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل لكوكبنا بالتدريج، حتى يصل إلى التربيع الأول في ليلة السابع من الشهر القمري، ثم إلى الأحدب الأول في ليلة الحادي عشر، ثم البدر الكامل في ليلة الرابع عشر، وفيها تكون الأرض بين الشمس من جهة، والقمر من الجهة الأخرى على استقامة واحدة.
وبخروج القمر عن هذه الاستقامة مع كل من الأرض والشمس تبدأ مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل للأرض في التناقص بالتدريج، فيتحوَّل إلى مرحلة الأحدب الثاني في حدود ليلة الثامن عشر، ثم إلى التربيع الثاني في ليلة الثالث والعشرين، ثم إلى الهلال الثاني في ليلة السادس والعشرين من الشهر القمري، ويستمر في هذه المرحلة لليلتين حتى يصل إلى مرحلة المحاق في آخر ليلة أو ليلتين، من الشهر القمري، حين يعود القمر إلى وضع الاقتران بين الأرض والشمس من جديد.
ولما كان القمر يقطع في كل يوم من أيام الشهر القمري نحو 12 درجة من درجات دائرة البروج -360 درجة على 29,5 يوم = 12,2 درجة- فإنه يقع في كل ليلة من ليالي الشهر القمري في منزل من المنازل التي تحددها ثوابت من النجوم، أو من تجمعاتها الظاهرية حول دائرة البروج، وهذه المنازل ثمانية وعشرون منزلاً بعدد الليالي التي يرى فيها القمر، وتعرف باسم “منازل القمر”.
ولما كان القمر في جريه السنوي مع الأرض حول الشمس يمر عبر البروج السماوية الاثني عشر التي تمر بها الأرض في كل سنة من عمرها، والتي تحدَّد بواسطتها شهور السنة الشمسية؛ فإن كل منزل من منازل القمر اليومية يحتل مساحة في برج من هذه البروج.
ونتيجة لميل مستوى مدار القمر حول الأرض على مستوى مدار الأرض حول الشمس بمقدار 5 درجات و 8 دقائق؛ فإن المسار الظاهري لكل من الشمس والقمر على صفحة السماء من نقطة شروق كل منهما إلى نقطة غروبه يبدو متقاربًا بصفة عامة، وإن تبع القمر الشمس في أغلب الأحوال.
وبصرف النظر عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق أمام الشمس، ودوران القمر حول الأرض في الاتجاه نفسه، فإن كلا من الشمس والقمر يظهران في الأفق مرتفعين من جهة الشرق، وغائبين في جهة الغرب، وإن كان أغلب ظهور القمر هو بالليل؛ لصعوبة رؤيته في وضح النهار.
والقمر يسير في اتجاه الشرق بمعدل 12 درجة تقريبًا في كل يوم؛ أي بمعدل نصف درجة تقريبًا في المتوسط في كل ساعة (360 درجة/ 29,5 يوم من أيام الشهر القمري = 12,3 درجة). (12,2 درجة/ 24 ساعة في اليوم = 0,51 درجة في الساعة)، بينما تقطع الشمس درجة واحدة في اليوم تقريبًا: (مجموع زوايا دائرة البروج =360 درجة على 365,25 يوم (من أيام السنة الشمسية) = 0,99 درجة/ يوم تقريبًا).
وهذا يدل على أن القمر يبقى في سباق دائم مع الشمس، إلا أنه يتأخر كل يوم في غروبه من 40 إلى 50 دقيقة عن اليوم السابق، تبعًا لاختلاف كل من خطوط الطول والعرض.
فالهلال الجديد يولد ويرى في الأفق الغربي بعد غروب الشمس بقليل، ويأخذ ظهور القمر في التأخر عن غروب الشمس، فيرى في طور التربيع الأول في وسط السماء، ويتأخر ظهوره لفترة أطول بعد الغروب في مرحلة الأحدب الأول، ويرى وهو أقرب إلى الأفق الشرقي، وفي مرحلة البدر يتفق ظهور القمر في الأفق الشرقي مع غياب الشمس في الأفق الغربي؛ لوجودهما على استقامة واحدة مع الأرض، وبعد الخروج عن هذه الاستقامة يأخذ القمر في التباطؤ في الظهور يومًا بعد يوم بمعدل خمسين دقيقة في المتوسط، حتى يصل مجموع التأخير في ظهوره إلى نحو خمس ساعات بعد غروب الشمس، وذلك في طور التربيع الثاني، ويستمر التباطؤ في ظهور القمر حتى يرى الهلال الثاني في وضح النهار، وفي طور المحاق -الذي لا يرى فيه القمر من فوق سطح الأرض؛ لوقوعه بينها وبين الشمس- يغيب القمر مع مغيب الشمس تمامًا لوجودهما على استقامة واحدة.
وبمجرد خروج القمر من مرحلة المحاق، ورؤية الهلال الوليد بعد غروب الشمس يولد شهر قمري جديد مع بدء إشراق الشمس على جزء من وجه القمر المقابل للأرض، الذي كان يعمُّه ليل القمر في وقت الاقتران، ويتفاوت زمن اقتران النيرين (الشمس والقمر) بسبب أن كلًّا من مدار القمر حول الأرض ومدار كل من الأرض والقمر حول الشمس ليس تام الاستدارة، بل على شكل بيضاني (أي على هيئة قطع ناقص)، ومن قوانين الحركة في مدار القطع الناقص أن السرعة المحيطية، تخضع لقانون يسمَّى باسم “قانون تكافؤ المساحات مع الزمن”، وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة على طول المحيط، فعندما يقترب القمر من الأرض تزيد سرعته المحيطية، فتزداد بالتالي القوة الطاردة المركزية بينهما؛ للحيلولة دون ارتطام القمر بالأرض وتدميرهما معًا. وعلى العكس من ذلك؛ فإنه عند ابتعاد القمر في مداره البيضاني عن الأرض فإن سرعته المحيطية تتناقص، وإلا انفلت من عقال جاذبية الأرض إلى نهاية لا يعلمها إلا الله.
وتتراوح سرعة دوران القمر في مداره بين 3,483 كم/ س، و 3,888 كم/ س (بمتوسط 3675 كم/ س ). كذلك تتفاوت سرعة سبح الأرض في فلكها حول الشمس بين 29,274 كم/ ث، 30,274 كم/ ث. وبجمع الفرق بين أعلى وأقل سرعتين لكل من القمر في مداره، والأرض في مدارها اتضح أنه يقابل الفرق في أطوال الأشهر القمرية بين 27,3215 يومًا في مدة الدورة النجمية للقمر، 29,5306 يومًا في دورته الاقترانية. والدورة النجمية للقمر حول الأرض تحسب باعتبار أن الأرض ثابتة لا تتحرك حتى يتم القمر دورته الكاملة حولها، والدورة الاقترانية للقمر تأخذ في الحسبان دوران الأرض حول محورها مع دوران القمر حول محوره([2]).
صورة توضح المنازل المختلفة للقمر
بَيْد أن البعض يتساءل: هل لدوران القمر وتغيُّر موقعه من الشمس والأرض من نتائج؟
نعم. هناك نتائج تترتب على هذا الدوران وهذا التغير؛ فالقمر يتخذ خلال دورته الشهرية -أي الانتقالية حول الأرض- مواقع محددة بالنسبة لها وللشمس، وله في كل من تلك المواقع مظهر خاص راجع إلى مقدار المساحة التي يغمرها النور من وجهه، والشكل الذي يتخذه ذلك الجزء المغمور بالنور، وتُدعَى تلك المظاهر باسم “منازل القمر” أو “وجوهه”، وهذه المنازل هي مراحل ظهور القمر لأهل الأرض، وإليك هذه المراحل بشيء من التفصيل:
- الهلال الأول:
أول منزل من منازل القمر؛ إذ يكون القمر قد ابتعد قليلاً عن نقطة الصعود، وهو في طريقه إلى سماء نصف الكرة الشمالي، فيرى يومها في الأفق الغربي، بعد غروب الشمس بقليل وقرب المكان الذي تغرب فيه الشمس، وقد أنارت الشمس أقصى الطرف الأيسر من السطح المعتم المتجه نحونا، ولا يتمكن من رؤية ذلك الهلال النحيل إلا أصحاب البصر الحاد، وخلال فترة قصيرة؛ إذ لا يلبث أن يغيب بعدها تحت الأفق، ويزداد عرض ذلك الهلال يومًا بعد يوم حتى إذا ما انقضت مدة 6 أيام و16 ساعة و11 دقيقة على بداية الشهر القمري، فإن القمر يدخل منزلاً جديدًا؛ إذ يتخذ شكلاً مغايرًا للشكل السابق؛ حيث يقال: إنه في التربيعالأول.
- التربيع الأول:
في اليوم السابع من الشهر القمري، يلاحظ القمر بعد غروب الشمس بقليل وقد غمر النور نصفه الأيسر، وعندها يقال: إنه في التربيع الأول؛ إذ يكون قد أمضى ربع دورته الانتقالية الشهرية حول الأرض، وذاك هو المنزل الثاني من منازل القمر.
- الأحدب الأول:
وفي اليوم الثامن من الشهر القمري وما بعده، يزداد القسم المنار من سطح القمر، كما يرى بعد غروب الشمس وهو أقرب إلى الأفق الشرقي؛ حيث يصبح القسم الأكبر منه منارًا، وذلك بعد مضي 11 يومًا على بدء الشهر القمري، ويكون تحدُّبه نحو يمينه؛ أي باتجاه الشرق ويدعى القمر عندها “الأحدب الأول”، وهو ثالث منزل من منازل القمر.
صورة القمر في شكل هلال
- البدر:
وفي ليلة النصف من الشهر القمري يكون القمر قد بلغ نقطة النزول، وقد غمر النور كامل وجهه، ويتفق إشراقه من الأفق الشرقي مع غياب الشمس في الأفق الغربي، ويقال يومها: إن القمر في حالة تقابل مع الشمس؛ إذ يكون هو والشمس وبينهما الأرض على استقامة واحدة، ويدعى القمر عندها “بدرًا”، وذاك هو رابع منزل من المنازل التي يبلغها القمر بعد مضي 14 يومًا على بداية الشهر القمري.
- الأحدب الثاني:
ويأخذ القمر يومًا بعد يوم بالتأخر في الشروق بمقدار 50 دقيقة وسطيًّا، كما يأخذ النور بالانحسار عن الجزء الأيسر منه، حتى إذا ما انقضت أربعة أيام على الحالة التي كان القمر فيها بدرًا، رسم الخط الفاصل بين القسم المنار منه والقسم المظلم خطًّا منحنيًا، تحدُّبه نحو الطرف الأيسر منه، ويدعى القمر عندها “الأحدب الثاني”، وهو المنزل الخامس من منازل القمر، كما يلاحظ أنه بدءًا من اليوم السادس عشر من الشهر القمري، يأخذ القمر بالاقتراب من الأفق الجنوبي، يومًا بعد يوم؛ إذ يكون قد انتقل إلى سماء نصف الكرة الجنوبي.
- التربيع الثاني:
وعندما يمضي من الشهر القمري 22 يومًا، نجد أن النور لم يعد يغطي إلا النصف الأيمن فقط من سطح القمر، وذلك هو المنزل السادس من منازل القمر الذي يدعَى “التربيع الثاني”، ويلاحظ أن شروقه يومها يتأخر نحو خمس ساعات تقريبًا بعد غروب الشمس، كما يُرى نهارًا وهو يتحرَّك شيئًا فشيئًا باتجاه الأفق الغربي؛ حيث يقارب منه ظهيرة ذلك اليوم.
- الهلال الثاني:
وفي الأيام الثلاثة التي تلي التربيع الثاني، يلاحظ أن النور لم يعد يغطي إلا قسمًا صغيرًا من طرفه الأيمن، متخذًا شكل هلال يُرى في النهار، ويكون تحدُّبه مساء عند اقترابه من الأفق الغربي نحو يمين القمر، وذاك هو المنزل السابع من منازل القمر.
- المحاق:
وفي آخر يوم من الشهر القمري، يكون القمر قد بلغ نقطة الصعود، وأصبح بين الأرض والشمس على استقامة واحدة، وقد غمر الظلام كامل وجهه المتجه نحونا، ويكون قد غاب تحت الأفق مع مغيب الشمس فلا يرى، ويقال لحالته تلك “حالة الاقتران”، أما منزله – وهو المنزل الثامن- فيدعى “المحاق”؛ إذ يقال للقمر يومها: إنه محاق؛ لأنه محق فلا يمكن رؤيته.
- القمر الرمادي:
في بداية الشهر القمري، حين يكون الهلال نحيلًا، نجده قد احتضن القسم المظلم الباقي من القمر الذي يبدو لأعيننا على شكل دائرة سوداء، ولو نظرنا لتلك الدائرة بالمرقب، لرأينا غشاء خفيفًا من نور رمادي اللون يغطيها، وما مصدر ذلك النور إلا الأرض التي تعكس نورها نحوه؛ الأمر الذي يجعل ذلك القسم المظلم من القمر يُرى بالعين المجردة([3]). والشكل الآتي يوضح هذه المنازل:
هذه هي المنازل التي ينزل القمر فيها، وهي دورة شهرية تتكرر كل 29,5 يومًا، وهي الزمن الظاهري الذي يكمل فيه القمر دورته حول الأرض، مع مراعاة دوران الأرض أيضًا حول الشمس في الوقت نفسه، بينما الزمن الحقيقي للشهر الفلكي 27,5 يومًا، وهذا بطبيعة الحال ما يوجد الفرق بين التقويم القمري والتقويم الشمسي.
وبناءً على ما سبق، يتبين لنا أن القمر، باعتباره تابعًا للأرض، يتحرك حولها فيتم دورته حولها في مدة تقارب 29,5 يومًا، وهو ما يسمَّى بـ “الشهر القمري أو العربي”؛ لتفريقه عن الشهر الشمسي أو الميلادي، الذي مدته نحو 30,5 يوما، وهو مشتق من حركة الأرض حول الشمس، التي تتم في اثني عشر شهرًا شمسيًّا، وتقدر بنحو 365 يومًا، وهي السنة الشمسية، أما السنة القمرية التي تعادل اثني عشر شهرًا قمريًّا فتقدر بنحو 354 يومًا.
ولو كانت الأرض لا تدور حول نفسها، لرأينا القمر يسير ببطء زائد، حتى إنه يدور دورة واحدة فقط حول الأرض في مدة 29,5 يوما، ولكن حركة الأرض حول نفسها تجعلنا لا نلحظ مقدار حركة القمر الصحيحة إلا إذا راقبناه يوميًّا في الوقت نفسه، مثلاً عند الغروب، فبمقدار ما يكون قد علا على الأفق يكون مقدار مسيره الحقيقي، وبما أنه يتم دورته الكاملة في نحو 30 يومًا، وهي تعادل على الأرض 24 ساعة، إذن يتأخر غروب القمر كل يوم عن اليوم السابق بمقدار 30/ 24 من الساعة؛ أي 4/ 5 الساعة؛ أي نحو 48 دقيقة؛ أي بمعدل ثلاثة أرباع الساعة كل يوم تقريبًا.
وهذا الارتفاع التدريجي للقمر نحو كبد السماء باتجاه الشرق يومًا بعد يوم، يسمح له بإظهار نصفه المضيء بالتدريج، ثم بعد نصف الشهر ينتابه النقصان من جديد حتى يعود إلى المحاق؛ حيث يقع بين الشمس والأرض، ويكون وجهه المضيء تجاه الشمس، ووجهه المعتم تجاه الأرض([4]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وإشارات القرآن الكريم:
لقد أشار القرآن الكريم في قوله عز وجل:)والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)((يس)، إلى حقائق مهمة لم يكتشفها العلماء إلا في العصر الحديث؛ فقد اكتشف العلماء أن للقمر منازل ينزل فيها طوال الشهر القمري، وأن هذا القمر يدور حول الأرض مرة كل شهر عربي، فينزل على وجوه يبدأ فيها بالهلال الأول، ثم التربيع الأول، ثم الأحدب الأول، ثم البدر، ثم الأحدب الثاني، ثم التربيع الثاني، فالهلال الثاني، فالمحاق، فالقمر الرمادي.
ولقد أشار القرآن إلى كل ذلك عندما قال عز وجل:)والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)( (يس)، وهذا يدل على مدى التطابق الواضح بين حقائق العلم الحديث وما أشار إليه القرآن منذ زمن بعيد.
وقد أشار المفسرون إلى هذا المعنى عند تفسيرهم للآية الكريمة؛ حيث ذكروا منازل القمر.
- من أقوال المفسرين في منازل القمر:
يقول الإمام الطبري في تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى:)والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)((يس): تأويل الكلام: وآية لهم تقديرنا القمر منازل؛ للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه، حتى عاد كالعرجون القديم، والعرجون: من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ؛ وإنما شبهه عز وجل بالعرجون القديم، والقديم هو اليابس، لأن ذلك من العذق، لا يكاد يوجد إلا متقوّسًا منحنيًا إذا قدم ويبس، ولا يكاد أن يُصاب مستويًا معتدلًا كأغصان سائر الأشجار وفروعها، فكذلك القمر إذا كان في آخر الشهر قبل استسراره، صار في انحنائه وتقوُّسه نظير ذلك العرجون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: )حتى عاد كالعرجون القديم (39)((يس)، يقول: أصل العذق العتيق. وعنه أيضًا: يعني بالعرجون: العذق اليابس.
وعن الحسن، في قوله: )والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)((يس)، قال: كعذق النخلة إذا قدُم فانحنى.
وعن قتادة:)حتى عاد كالعرجون القديم(39)((يس)، قال: قدَّره الله منازل، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق النخلة([5]).
يشير إلى هذا المعنى ويوضِّحه الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية، يقول: يقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال: )قدرناه منازل((يس:39)، ففي هذا جوابان:
أحدهما: قدرناه ذا منازل، مثل: )واسأل القرية ( (يوسف: ٨٢).
والتقدير الآخر: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام، وكان حذفها حسنًا؛ لتعدي الفعل إلى مفعولين… مثل: )واختار موسى قومه سبعين رجلا( (الأعراف: ١٥٥)، والمنازل ثمانية وعشرون منزلًا، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل، وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الخراتان، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانيان، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخر، وبطن الحوت، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها فيقطع الفلك في ثمانٍ وعشرين ليلة، ثم يستسر، ثم يطلع هلالًا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث… وقوله عز وجل:)حتى عاد كالعرجون القديم (39)((يس)، قال الزجاج: هو عود العذق الذي عليه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف؛ أي: سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى صار كالعرجون، وقال قتادة: هو العذق اليابس المنحني من النخلة، وقال ثعلب: العرجون: الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت([6]).
وإلى هذا المعنى أيضًا أشار الألوسي عند تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى:)هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)((يونس)، (وقدره)؛ أي: قدر له وهيأ (منازل) أو قدر مسيره في منازل، والمنازل ثمانية وعشرون… وهي مقسمة على البروج الاثني عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلاث مئة وستين أجزاء دائرة البروج على اثني عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة، وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثًا وخمسين ثانية وستًّا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز؛ لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى نزول القمر في هاتيك المنازل: مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج؛ لأنها مفروضة أولاً في الفلك الأعظم([7]).
وأورد ابن كثير في تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى:)والقمر قدرناه منازل((يس:39)؛ أي: جعلناه يسير سيرًا آخر يستدل به على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال سبحانه وتعالى:)يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج( (البقرة: ١٨٩)، وقال: )هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب( (يونس: ٥)، وقال: )وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (12)((الإسراء)، فجعل الشمس لها ضوء يخصُّها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار، فهي كوكب نهاري.
وأما القمر فقدره منازل، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسًا من الشمس، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم([8]).
ومن خلال استعراضنا لأقوال المفسرين وجدناهم قد تحدثوا عن منازل القمر بشكل يكاد لا يختلف عما توصَّل إليه العلماء في عصرنا، وهذا يدل على صحة ما أشار إليه القرآن الكريم، ويدحض ما ذهب إليه هؤلاء.
3) وجه الإعجاز:
- نظرًا للارتباط الشديد بين مراحل القمر وأشكاله المتتالية من الهلال الوليد وحتى المحاق، وبين منازل القمر الثمانية والعشرين، وهي مواقعه اليومية المتتالية في السماء بالنسبة إلى نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريًّا، فإن التعبير: “منازل القمر” يمكن إطلاقه على مراحل القمر المتتالية، وعلى منازله المتوافقة مع تلك المراحل – أي مواقعه المتتالية في السماء- باعتبار المنازل؛ ولذا قال الحق عن القمر: (قدرناه منازل)؛ أي إن كل هذا قد جاء بتقدير إله قدير، قدَّر لهذا القمر هذه التحركات التي احتوتها كلمة “قدرناه”، فهذه الكلمة إشارة إلى أفلاك القمر ومنازله التي أنزله الله فيها؛ كي يكون لنا من أشكاله ما نراه عندما يعكس لنا ضوء الشمس من مواقع مختلفة أمامها.
- كلمة “منازل” تعد تصحيحًا للتعبير الذي شبه به بعض العلماء حركة القمر، وقالوا بأنه يراقص الأرض، فهو لا يراقصها، ولكن التعبير الأشمل والأجمل أنه ينازلها، فمن قواعد المنازلة أن يواجهها أيضًا بوجه ثابت، ولكنه يجب أن يبتعد عنها بعدًا كافيًا يتيح له تسديد ضوء الشمس إلى الأرض كلما حانت له انفراجة في مسار الأرض عن الشمس، ولكن الرقص الذي أطلقه بعض علماء الغرب يعني انضمامهما، وهو تشبيه يجافي الحقيقة، أما المنازلة فلا تسمح بهذا، وتنطبق –حقًّا- على من يرى حركة القمر الملازمة للأرض في دورانه معها حول الشمس، وفي الوقت نفسه يدور حولها ويقترب ويبتعد أثناء هذا الدوران بوجه ثابت، كما لو أنه ينازلها دون أن يحيد عنها.
- حركة القمر، وهو يتحرك من يمين الأرض إلى يسارها، ومن يسارها إلى يمينها تبدو لمن يراها كما لو أن القمر يتمايل حول الأرض أو ينازلها وهو يدور معها أو حولها، وتأتي الآية فتطلق هذا التشبيه “عاد كالعرجون القديم”، الذي يقرب من رؤيتنا حركة القمر وهو يتحرك أو يقفز في سهولة ويسر على جانبي الأرض قفزات وحركات بمثل تقلبات العرجون على جانبي شجرته، وينشأ من هذا التمايل المقدر أشكال القمر المختلفة، فمنازله إشارات إلى حكمته وقدرته عز وجل، وأن كل ما وجدناه ورأيناه وعلمناه جاء بتقديره سبحانه وتعالى.
- كلمة “قدرناه” جاءت بكل السمو كي تبدد حيرتنا؛ لأن الخالق هو الذي قدر للقمر هذه الزوايا والسرعات والأبعاد والمسافات والمستويات، فصار إلى ما صار إليه من ملازمته للأرض، أو منازلتها والقفز على جانبيها، حتى اعتاد هذه المنازل كما اعتاد العرجون في التحرك والتطوح على جانبي الشجرة كلما تعرض للقدم والجفاف، أي إعجاز هذا في الخلق والقول؟! إنه إعلان حي من الخالق، إنه هو الذي دبَّر وقدَّر للقمر منازله بتقدير العزيز العليم، في دورات مستقرة وثابتة، تنشأ عنها هذه الأشكال المتكرِّرة للقمر من هلال إلى بدر إلى هلال تنبئ عنها كلمة “عاد”،فهي تفيد العودة والتكرار كما تفيد الاعتياد والاستمرار والاستقرار، فانظر إلى هذه الدقة في سردها الحقائق العلمية المتكاملة بأبسط العبارات وأدق التشبيهات، التي ترجع كل شيء في هذا الكون لتقدير الخالق منزل القرآن على عبده بالعلم والحكمة، بما يظهر الحق ويبدِّد الحيرة في هذه الحركة المعقدة للقمر مع الأرض والشمس([9]).
- تقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة على طلاقة القدرة الإلهية ما فيه؛ لأهميته في معرفة الزمن، وتقديره، وحسابه باليوم، والأسبوع، والشهر، والسنة، وفي التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق، ولما فيه من تأكيد على ضبط سرعة القمر ضبطًا دقيقًا من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه، أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهي إلى نهاية لا يعلمها إلا الله، وفي الوقت نفسه، الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره، فإذا زادت إحداهما قلت الأخرى بالمعدل نفسه.
ولما كانت سرعة دوران الأرض حول محورها في تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية في كل قرن من الزمن، فإن سرعة دوران القمر في تزايد مستمر بالمعدل نفسه تقريبًا؛ الأمر الذي يؤدي إلى تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات في كل سنة، وهذا التباعد سوف يخرج القمر في يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض؛ ليدخله في نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه، ولعل هذا ما يشير إليه قول الحق سبحانه وتعالى:)فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9)((القيامة)، ومن هنا كانت هذه الإشارة القرآنية المعجزة إلى وصف مراحل القمر المتتالية في كل شهر، التي يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى :)والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)( (يس).
ويضاف إلى هذا وصف المرحلة الأخيرة من مراحل الدورة الشهرية للقمر بالعرجون القديم، وهو العنقود من الرطب “العذق” إذا يبس وانحنى واصفرَّ لونه، وهو عند يبوسه على النخلة ينحني تجاهها، وكذلك الهلال الثاني ينحني بطرفيه تجاه الأرض، بينما الهلال الوليد ينحني بهما بعيدًا عنها، فما أروع هذا التشبيه القرآني المعجز!
هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبي إلا بعد مجاهدة آلاف العلماء، واستغرقت عشرات القرون، وورودها في آية واحدة من كتاب الله الذي أنزل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، ومن قبل ألف وأربع مئة سنة ـ يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله([10]).
(*) القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، مرجع سابق.
[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، مرجع سابق، ص85.
[2]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص517- 519.
[3]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد التفتنازي، مرجع سابق، ص299-302.
[4].)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ(، لبيب بيضون، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنةwww.55a.net.
[5]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج20، ص518-522.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص29-30.
[7]. روح المعاني، الألوسي، مرجع سابق، عند تفسيره لهذه الآية.
[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج6، ص577-578.
[9]. تأملات إيمانية في سورة يس، د. سلامة عبد الهادي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص521-522.