نفي إعجاز القرآن في إخباره عن طور العلقة في خلق الجنين
وجه إبطال الشبهة:
أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الجنين في مرحلة العلقة ـ وهي المرحلة التي تبدأ مباشرة بعد انغراس النطفة الأمشاج أو الكيسة الأريمية في الرحم ـ يتعلق بأمه تعلقًا شديدًا؛ حيث يتعلق برحمها، ويتغذى من دمها الذي ينتقل بينهما منذ هذه المرحلة، كما يحاط الجنين في هذه المرحلة ببرك أو بحيرات عديدة من الدماء، ويكون الدم في هذه البحيرات أول الأمر متخثرًا جامدًا، والجنين بداخله لا يزيد حجمه عن 2مم؛ مما يجعل مظهر الجنين كأنه دم غليظ متعلق.
وهذا ما يتطابق تمامًا مع المعاني والدلالات اللغوية الواردة في لفظ “علق” أو “علقة”، والتي منها: النشوب والتعلق، والدم عامة سواء كان جامدًا أو رطبًا، واللون الأحمر وغيرها من المعاني.
كما أن تشبيه مرحلة العلقة في أطوار خلق الجنين بدودة العلق، وصرف اللفظ إليها ـ لهو من الحقائق العلمية الموافقة لخلق الجنين في هذه المرحلة؛ حيث أثبتت الصور المجهرية للجنين في هذا الطور توافقًا كبيرًا بين دودة العلق والجنين من ناحية الهيئة والشكل والمحيط والوظيفة، الأمر الذى يسوغ موقف علماء الإعجاز العلمي في إعادة مصطلح العلقة في خلق الجنين إلى دودة العلق التي تعيش في البرك وتمتص الدماء من الحيوانات وغيرها.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
يمر الجنين في رحلة خلقه وتكوينه بمجموعة من المراحل المتلاحقة التي تسلم بعضها بعضًا، والأطوار المتعاقبة التي تسفر عن خلق تام مكتمل، ومن هذه المراحل التي يمر بها الجنين في تخلقه وتكوينه مرحلة “العلقة”، وهي المرحلة التي تلي نزول النطفة الأمشاج إلى الرحم، والانغراس بجداره.
وهكذا “تقوم البويضة الملقحة (النطفة الأمشاج) بالانقسام المتتالي؛ فتصبح الخلية أربع خلايا في 40 ساعة، ثم تكون 32 خلية في 80 ساعة، ولا تمر خمسة أيام إلا وقد صارت مثل الكرة تمامًا، أو مثل ثمرة التوتة، وتدعى عندئذ التوتة (MORULLA)، ثم يمتلئ جوف هذه الكرة بسائل وتدعى عندئذ الكرة الجرثومية، أو البلاستولا (BLASTULA)، وفي تلك الأثناء تتمايز خلايا الكرة الجرثومية إلى طبقتين: خارجية وداخلية.
الطبقة الخارجية:
تتكون من خلايا آكلة ومغذية، وما إن تصل إلى الرحم حتى تنشب فيه وتعلق بجداره وتقضم خلاياه، وعادة ما يكون ذلك في الجدار الخلفي للرحم، وفي النصف الأعلى منه على وجه الخصوص؛ حيث يعتبر ذلك أكثر مناطق الرحم صلاحية لنمو الجنين واكتماله.
ويكون الرحم قد استعد لذلك بزيادة ثخانة طبقة غشائه وازدياد الدماء فيه حتى تكون به جيوب دموية كثيرة.
الطبقة الداخلية:
ومنها سيخلق الله تعالى الجنين وأغشيته، ويتكون اللوح الجنيني أولًا، وهو يشبه القرص المستدير في أول أمره، ثم يستطيل حتى يشبه الكمثرى، ثم يتحول هذا اللوح الجنيني إلى ورقتين: خارجية مكونة من خلايا عمودية، ويغطيها كيس السلى (الأمنيون)، وداخلية مكونة من خلايا مفرطحة، وتتصل بكيس المح.
ويتم انغراز الكرة الجرثومية في جدار الرحم فيما بين اليوم الخامس والسابع منذ التلقيح، وتقوم الخلايا في الطبقة الخارجية من هذه الكرة الجرثومية بقضم خلايا الرحم والانغراز فيه، كما تقوم بعدئذٍ بتأمين الغذاء من الرحم، وتتصل هذه الخلايا مباشرة بالدم الغليظ في الجيوب الدموية الرحمية وتأخذ منها غذاءها وغذاء الجنين”([1]).
وعلى هذا فإن مرحلة “العلقة” هي المرحلة التي يتم فيها انغراس الكرة الجرثومية في بطانة الرحم، والتي تعلق بها علوقًا قويًّا، وتعتمد عليها في نقل الغذاء والدماء؛ حيث تنقسم هذه الكرة الجرثومية إلى طبقتين: طبقة خارجية وطبقة داخلية، ثم تأخذ في الانغراس والتعلق بجدار الرحم، فهذه المرحلة ما هي إلا انغراس وتعلق للنطفة الأمشاج أو الكيس الأريمي في بطانة الرحم.
وهكذا “يتم الانغراس عند الإنسان في الوجه الداخلي لقعر الرحم؛ حيث يلاحظ بعد تشكل الكيس الأريمي ووصوله إلى تجويف الرحم ـ ويتم ذلك في اليوم السادس بعد الإخصاب ـ حدوث بعض التغيرات في كل من الأرومة المغذية (Trophoblast)، والقرص الجنيني (الأرومة الجنينية) (Embryoblast)؛ حيث تنقسم الأريمة المغذية إلى طبقتين: طبقة خلوية داخلية سريعة الانقسام تسمى الأرومة المغذية الخلوية (Cytotrophoblast)، وطبقة لاخلوية خارجية تسمى الأرومة المغذية اللاخلوية (Syncytiotrophoblast)، تتموضع فوق الأرومة المغذية الخلوية في القطب الحيواني بالقرب من مخاطية الرحم، ومع زيادة الانغراس تنتشر على كامل سطح الكيس الأريمي، وهي عبارة عن كتلة برتوبلازمية تمتلك إنزيمات حالة لبطانة الرحم، ويساعدها في ذلك إنزيم الهيالورونيداز (Hyaluronidase) الذي تفرزه الأرومة المغذية، مما يسهل عملية انغراس الكيس الأريمي في بطانة الرحم، ثم تنشأ داخل الأرومة المغذية اللاخلوية مجموعة من الفضوات التي تسمى بريكات أو فجوات (Lacunae) التي تمتلئ بدم الأم وإفرازات الغدد الرحمية مشكلة الغذاء الجنيني إلى حين تشكل المشيمة، حيث ينتقل هذا الغذاء للجنين عن طريق الانتشار.
أما الأرومة الجنينية (القرص الجنيني) فتنقسم ـ أيضًا ـ إلى طبقتين: طبقة علوية مكونة من خلايا كبيرة الحجم تسمى الأرومة العلوية (Epiblast)، وتتموضع تجاه القطب الحيواني، وطبقة سفلية مكونة من خلايا صغيرة الجسم تسمى الأرومة السفلية (Hypoblast) وتتموضع تجاه جوف الأريمة…
يكتمل الانغراس عند الإنسان في حدود اليوم 10 ـ 12؛ حيث تنغلق بطانة الرحم على الكيس الأريمي الذي يصبح بكامله داخل مخاطية الرحم، مما يؤدي إلى بروز جدار الرحم باتجاه تجويفه واحتقان ظهارته”([2]).
صورة لانغراس البويضة في جدار الرحم
- المراحل التي تمر بها العلقة:
تبدأ مرحلة العلقة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ بعد تكون النطفة الأمشاج أو البويضة الملقحة، وانقسامها المتتابع حتى تكون الزيجوت أو التوتة، ثم تسقط إلى الرحم، وتأخذ في الانغراس والتعلق ببطانته، منقسمة إلى طبقتين: داخلية وخارجية.
ومنذ أن تعلق الكيسة الأريمية في بطانة الرحم تأخذ في التطور عقب مجموعة من المراحل تمر بها، ويمكن عرض هذه المراحل بصورة مجملة فيما يأتي:
- ففي اليوم الثامن من التلقيح أو الثاني من العلوق (الأسبوع الثاني):
تتمايز خلايا الكتلة الخارجية إلى مجموعتين من الخلايا الخارجية، منها خلايا مخلاوية، تفقد الجدر الفاصلة فيما بين خلاياها، وتتصل اتصالًا مباشرًا بالبحيرات الدموية الموجودة في جدار الرحم، وتدعى بالطبقة المخلاوية.
- اليوم التاسع:
يمتد من خلايا الطبقة (الإنتودرم) شريط من الخلايا، ويتصل بخلايا (الميزودرم) الخارجية مكونا كيس المح، وتنغرز الكرة الجرثومية بأكملها تقريبًا داخل الرحم في هذا اليوم، وتقفل الفتحة التي دخلت منها الكرة الجرثومية بواسطة جلطة مكونة من الليفين.
- اليوم الحادي عشر والثاني عشر:
تكون الكرة الجرثومية قد أكملت انغرازها، وتغطت الفتحة التي دخلت منها الكرة بواسطة خلايا من غشاء الرحم، ومن الجلطة الدموية التي كانت تسد الفتحة كما رأيناها في اليوم التاسع.
- اليوم الثالث عشر:
قد يظهر في هذا اليوم نزيف من الرحم نتيجة زيادة الدورة الدموية في الرحم، ولذلك قد تظن المرأة أن ذلك دم الحيض جاء في موعده، ولا تفطن أنها حامل، خاصة أن الدم يأتي في موعد الحيضة تمامًا، وفي هذا اليوم تنمو الخلايا، وفي نهاية الأسبوع الثاني منذ التلقيح يبدو الجنين ممثلًا بقرصين متلاصقين، القرص الخارجي هو قرص الأكتودرم، والذي يكون قاع تجويف السلي (الأمنيون) والقرص الداخلي هو قرص الأنتودرم الذي يكون سقف تجويف كيس المح، ويلتصق القرصان في الجزء الأمامي جهة الرأس للجنين، نتيجة سماكة خلايا (الأنتودرم) التي تصبح عمودية في هذه المنطقة، والتي تعرف باسم الصفيحة سالفة القلب، كما يلتصق القرصان في المنطقة المؤخرية لهما.
اللوح الجنيني:
في الأسبوع الثالث (ابتداء من اليوم الرابع عشر إلى اليوم الواحد والعشرين)، عندما تعلق الكرة الجرثومية تكون كتلة الخلايا الداخلية التي يخلق منها الجنين قد تمايزت إلى طبقتين:
- خارجية: وهي خلايا عمودية تسمى الأكتودرم.
- داخلية: وهي خلايا مفرطحة في أول أمرها، ثم تكون مكعبة وتسمى الأنتودرم، وتكون كل طبقة مثل القرص، فكأنهما قرصان متلاصقان يتحولان إلى مستطيلين في نهاية الأسبوع الثاني حتى يأخذا شكل الكمثرى.
وتنمو مجموعة من الخلايا تتجه يمنة ويسرة بين طبقة الأكتودرم وطبقة الأنتودرم، ويستمر هذا الشريط في نشاطه إلى نهاية الأسبوع الثالث عندها تظهر الكتل البدنية، ثم يثوي بعد ذلك نشاطه، ويندثر في الأسبوع الرابع، وفيما بين اليوم الخامس عشر وحتى ظهور الكتل البدنية في نهاية الأسبوع الثالث، يكون الشريط الأول في أوج نشاطه، وتمتد خلايا منه مكونة الطبقة المتوسطة الجنينية.
وهكذا يتحول اللوح الجنيني المستدير الشكل إلى شكل كمثرى، تكون جهته الرأسية عريضة، وجهته المتأخرة ضيقة دقيقة، ويتضح ذلك في اليوم الثامن عشر، ويكون اللوح الجنيني عندئذٍ مكونًا من ثلاث طبقات([3]).
هذه هي مرحلة العلقة بوصفها طورًا من أطوار خلق الجنين، والتي تعرف باسم “مرحلة الالتصاق والانغراس أو الحرث” (The Attachment And Implantation Stage).
ويحدث فيها اقتراب الأرومة الجرثومية (Blastula)من الغشاء المخاطي المبطن للرحم حتى تلتصق في جزئه العلوي بعد ستة إلى سبعة أيام من تاريخ الإخصاب، ثم تقوم الخلايا الخارجية للأرومة الجرثومية بقضم جدار الرحم والانغراز فيه بواسطة عدد من الخملات الدقيقة، الغارقة في بحر من الدماء، وبذلك يكون الاتصال بين الجنين ودماء الأم اتصالًا مباشرًا فتتغذى عليه العلقة وعلى لبن الرحم الذي تفرزه آلاف من الغدد الرحمية.
وفي حوالي اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من تاريخ الإخصاب تقفل الفتحة التي دخلت منها الأرومة الجرثومية في غشاء جدار الرحم بعدد من الخلايا الليفية والدموية، ثم تغطى بعدد من الخلايا الطلائية المكونة لبطانة الرحم الغشائية.
وبعد هذه المرحلة الأولى من تعلق الجنين بجدار الرحم، وانغراسه فيه، يبدأ الغشاء المشيمي (Chorion) في التكون من الخلايا الخارجية للأرومة الجرثومية، كما يتكون معلاق موصل بين الجنين وبين الغشاء المشيمي، تنشأ فيه الأوعية الدموية السرية المغذية للجنين لتأكيد تعلق الجنين بجدار الرحم.
ويستمر طور العلقة من اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين تقريبًا بعد إتمام عملية الإخصاب، وعلى الرغم من ضآلته فإن هذا الطور يتميز بصفات عدة، منها: التكاثر المتسارع للخلايا ونشاطها في تكوين أجهزة الجسم، وبدء ظهور شق عصبي عميق عند نهاية الطرف الخلفي للجنين، وتكون عدد قليل من الفلقات، ووضوح ثنية الرأس لينتقل هذا الطور إلى الطور الذي يليه، وهو طور المضغة([4]).
رسم يوضح كيفية تغور البويضة داخل بطانة الرحم؛ ومن ثم تنغلق الفتحة التي تسببها بالسدادة النسيجية (Closing Plug)
كما بينت الأبحاث العلمية أن هناك توافقًا كبيرًا بين الجنين في هذه المرحلة وبين دودة العلق في الهيئة والمحيط والوظيفة؛ وهذا ما يسوغ أن هذه التسمية راجعة إلى مشابهة هذه الدودة المسماة بدودة العلق.
فإنه “بعد أن تتمايز النطفة إلى كتلتين، كتلة داخلية وكتلة خارجية، تتحد الكتلة الخارجية ببطانة الرحم وتخرج النطفة عن شكلها وطبيعتها، وتتهيأ لأخذ شكل جديد هو شكل القرص الجنيني، هذا القرص يتخذ تدريجيًّا شكل علقة.
والحاصل أن الحبل الظهري (NOTHOCORD)ينمو في الأسبوع الثالث، فيستطيل الجنين ويتخذ نسبيًّا شكلًا كمثريًّا، وفي الوقت نفسه تنمو الطبقة المتوسطة (MESODERM)،فيتصلب الجنين، ويتضخم جزء الطبقة الخارجية للجنين الممتد على جانبي محور الجنين (NEURALPLATE)،بينما ينخفض الجزء المحوري ابتداء من اليوم الثامن عشر، فيظهر خط طولي في وسط الجنين، ومن ثم تلتحم أطراف الطبقة الخارجية الواقعة على جانبي المحور في اليومين الثاني والعشرين والثالث والعشرين مكونة ميزابًا عصبيًّا (NEURAL GROOVE)،وتتمايز الطبقة المتوسطة التي تلامس هذا الميزاب (PARAXIAL MESODERM)ابتداء من اليوم الواحد والعشرين؛ أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة، فتظهر بعض الشقوق فيها على أثر ذلك، وتنقسم إلى قطاعات مكونة على جانبي الميزاب العصبي بعض ما يسمى بـ “الفلقات البدنية” (SOMITES)،فنجد في نهاية الأمر أن الجنين قد اتخذ شكلًا مستطيلًا نسبيًّا، وأن رأسه قد تضخم، ووسطه قد نحف، وظهر خط طولي في وسطه، وبدأ شكله يتثلم قليلًا مع اعوجاج صغير في شكله الكلي، حتى إن مظهره الخارجي أصبح يشبه مظهر العلقة؛ أي الدودة… في هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة؛ إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي (السائل الأمنيوسي) تمامًا مثلما تحاط الدودة بالماء.
وهكذا يتشابه الجنين مع دودة العلقة من حيث المحيط والوظيفة”([5]).
رسم توضيحي يبين وجه الشبه بين المنظر الجانبي للجنين في مرحلةالعلقة (الرسم الأسفل)
وطفيلالعلق في الأعلى
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
إن آية خلق الإنسان بما فيها من إبداع ودقة لتدل دلالة قاطعة على مدى عظمة الخالق، وجلال قدرته، وإبداع صنعه، إنها آية عظيمة من آيات الله عز وجل في الكون، تتجلى فيها قدرة الواحد الأحد، الفرد الصمد؛ إثباتًا لتفرده سبحانه في الخلق والملك والتدبير.
ولقد عبر القرآن الكريم في إعجاز بين عن مراحل خلق الإنسان، وبينها بيانًا تامًا بما لا يدع مجالًا للشك أنه الكتاب المعجز الحق، ومن هذه المراحل التي ذكرها القرآن الكريم في خلق الجنين، مرحلة العلقة أو العلق، قال تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم… ((الحج: ٥)، وقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا…((المؤمنون)، وقال تعالى: )هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا( (غافر: ٦٧)، وقال تعالى: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) ((القيامة)،وقال تعالى:)خلق الإنسان من علق (2)( (العلق).
آيات بينات كثيرة في هذا السياق تذكر مراحل خلق الجنين وأصل الإنسان؛ حيث ينتقل الجنين في أطواره المتعاقبة حتى يصير خلقًا مكتمل البنيان، سليم الخلقة في إعجاز خلقي باهر، تشخص له الأبصار، وتصيخ له الآذان.
إلا أن الطاعن يصم أذنه، ويغمض طرفه عن هذه الحقائق البينة، ولا يروق له هذا الإعجاز البين للقرآن الكريم في وصف مراحل الخلق بدقة متناهية، محاولًا النيل من هذه الحقائق والغض من شأنها، فيأتي بفرقعات وأوهام لا تلبث أن ينكشف زيفها، وتذهب سدى بمجرد نظرة فاحصة.
لقد تحدث القرآن الكريم عن مرحلة العلقة في خلق الجنين، وذكرها بعد مرحلة النطفة التي تصير فيها البويضة إلى زيجوت أو توتية، وتنزل إلى الرحم وتنغرس فيه، وهنا تأخذ مرحلة العلقة في التكون؛ حيث تمتد هذه المرحلة من اليوم الرابع عشر إلى اليوم الرابع والعشرين.
ولعل لفظ علقة في وصف هذه المرحلة هو أفضل المصطلحات وأنسبها في التعبير بوضوح عن هذه المرحلة، وهذا ما تبينه الدلالات اللغوية وتفسير الآيات القرآنية.
- من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:
حفلت المعاجم اللغوية بتفصيل كبير فيما جاء بشأن دلالات ومعاني كلمة “العلق” أو “علقة”. وقد استخدم العرب هذا اللفظ في الدلالة على معان عدة، من أهمها: التعلق والنشوب بصفة عامة، والشيء المعلق، والدم بعامة سواء كان جامدًا أو رطبًا، ودودة حمراء تكون في الماء تمتص الدم، والحُب والهوى، وحَبَل المرأة، وغيرها مما جاء في هذه الدلالات، وكل هذه المعاني تدور حول دلالة التعلق والنشوب في الشيء، وكلها تدل دلالة واضحة على مضمون العلقة في خلق الجنين، بل تعبر عنها تعبيرًا مثاليًّا.
فقد جاء في لسان العرب: “علق: عَلِق بالشيء عَلَقًا وعَلِقه: نشب فيه… وهو عالق به؛ أي: نشب فيه، وقال اللحياني: العَلَق: النشوب في الشيء يكون في جبل، أو أرض أو ما أشبهها. وأعلق الحابل: علق الصيد في حبالته: أي نشب… وعَلِق الشيء عَلَقًا، وعلق به علاقة وعلوقًا: لزمه… وعلق بها علوقًا، وتعلقها وتعلق بها، وعلقها وعلق بها تعليقًا: أحبها… والعلق: الدم ما كان، وقيل: هو الدم الجامد الغليظ، وقيل: الجامد قبل أن ييبس، وقيل: هو ما اشتدت حمرته، والقطعة منه علقة… ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة؛ لأنها حمراء كالدم، وكل دم غليظ علق، والعلق: دود أسود في الماء معروف، والواحدة علقة”([6]).
وكذلك جاء في معجم “الصحاح في اللغة” هذا المعنى، فقال: “علق: العلق: الدم الغليظ، والقطعة منه علقة. والعلقة: دودة في الماء تمتص الدم، والجمع: علق… والعلق: الذي تعلق به البكرة من القامة، يقال: أعرني علقك؛ أي: أداة بكرتك… وعلقت المرأة؛ أي: حبلت… والعلوق: ما يعلق بالإنسان، والمنية علوق وعلاقة”([7]).
وقال صاحب تاج العروس: “العلق: الدم عامة ما كان، أو هو شديد الحمرة، أو الغليظ، أو الجامد قبل أن ييبس… والعَلَق: كل ما علق”([8]).
وهذه المعاني المتعددة للفظ (علقة) يكاد يعقد عليها الاتفاق في كل معاجم اللغة العربية.
أما علماء التفسير في القديم والحديث فقد ذهبوا إلى أن المراد بالعلقة في هذه الآيات، هو الدم، وبخاصة الدم الغليظ المتجمد.
فقد قال الإمام ابن جرير الطبري: “وقوله: )ثم خلقنا النطفة علقة((المؤمنون: ١٤)، يقول: ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة، وهي القطعة من الدم”([9]). وقال أيضًا: “قوله: )خلق الإنسان من علق (2)((العلق)؛ يعني: من الدم”([10]).
وقال الإمام القرطبي: “)ثم من علقة ((الحج: ٥): وهو الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط؛ أي: الطري، وقيل: الشديد الحمرة”([11]). وقال أيضًا: “)من علق (2)( (العلق) ؛ أي من دم؛ جمع علقة، والعلقة: الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح، وقال: )من علق (2)( (العلق) ، فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة، والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك؛ لأنها تعلق ـ لرطوبتها ـ بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة”([12]).
وقال الإمام ابن كثير: “)ثم خلقنا النطفة علقة((المؤمنون: ١٤): أي صيرنا النطفة… فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة، قال عكرمة: وهي دم”([13]).
وقال الإمام البغوي: “)ثم من علقة ((الحج: ٥)،وهي: الدم الغليظ المتجمد، وجمعها علق، وذلك أن النطفة تصير دمًا غليظًا، ثم تصير لحمًا”([14]).
وإلى هذا المعنى ـ أيضًا ـ ذهب كثير من المفسرين حديثًا؛ فيقول الإمام سيد قطب:”)خلق الإنسان من علق (2)( (العلق) : من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم”([15]).
وقال صاحب التحرير والتنوير: “والعلق: اسم جمع علقة، وهي: قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبًا لم يجف، سمي بذلك تشبيهًا لها بدودة صغيرة تسمى علقة، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده، وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها، ومعنى )خلق الإنسان من علق (2)((العلق) : أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة، فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكون، فجعلت العلقة مبدأ الخلق، ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق؛ لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل، فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة، فلا يتخلق الجنين، وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة، وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة.
ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة؛ لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدًّا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافًا، تكون في مبدأ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة، فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها، فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق، كما قال تعالى: )مخلقة وغير مخلقة( (الحج: ٥)، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلًا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه، وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة”([16]).
هذا أهم ما جاء في معنى العلقة في معاجم اللغة وعند المفسرين قديمًا وحديثًا، والمعاني كلها الواردة في اللغة دلالة على لفظ العلق، وعلقة تتطابق مطابقة واقعية مع هذه المرحلة من مراحل خلق الجنين، بل ليس هناك لفظ أنسب من لفظ علقة لوصف هذه المرحلة، وهذا إعجاز بين للقرآن الكريم؛ فالمعاني التي تحويها هذه الكلمة تنطبق كلها بإعجاز على مظهر الجنين ووظيفته وما يطرأ عليه من تغيرات خلال هذه المرحلة، وهذا ما وضحه العلم الحديث وكشف عنه بوسائله الفعالة.
فمن أهم المعاني التي ذكرت في لفظ العلق ما يأتي:
- الالتصاق والتعلق والنشوب بشيء.
- العلقة: هي دودة تعيش في البرك، وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها.
- العلق: هو الدم الغليظ الجامد.
- كلمة العلقة: تستعمل أيضا للإشارة إلى الدم الرطب.
- كلمة علقة: تشير إلى الحمرة الشديدة.
وهذه المعاني كلها تنطبق انطباقًا تامًّا على مرحلة العلقة في خلق الجنين، وهذا ما نبينه كالآتي:
“المعنى الأول وهو معنى الالتصاق والتعلق بشيء:
فإن كتلة الخلايا التي تتولد عن انقسامات النطفة تتمايز إلى كتلتين: كتلة خلايا داخلية (INNER CELL MASS) ستؤلف الجنين، وكتلة خلايا خارجية (TROPHOBLAST) ستؤلف المشيمة. تلك الكتل تكون متصلة بعضها ببعض عند قطب من الأقطاب يسمى “القطب الجنيني” (EMBRYONIC POLE)، بينما يفصل بينها من سائر الجهات ما عدا القطب الجنيني فراغ ممتلئ بسائل يدعى “كيس المح الأولي” (PRIMITIVE YOLK SAC).
ولكن تلك الكتل ما تلبث أن تتمايز، فتنفصل كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في الجزء الوسط منها عند القطب الجنيني، لتؤلف قرصًا مسطحًا دائريًّا يسمى “القرص الجنيني” (EMBRIONIC DISC)، وينشأ بين هذا القرص وكتلة الخلايا الخارجية من جراء هذا الانفصال فراغ يسمى “الفراغ الأمنيوني” (AMNIOTICCAVITY). فيفصل عندئذٍ الفراغ الأمنيوني القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من جهة القطب الجنيني، بينما يفصل كيس المح الأولي القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من الجهة المعاكسة، ويظل القرص الجنيني متصلًا بكتلة الخلايا الخارجية عند أطرافه، ويتولد في الوقت نفسه طبقة رخوة عن النسيج من خلايا المح، سرعان ما تحيط بالفراغ الأمنيوني وبكيس المح وبالقرص الجنيني عند أطرافه، ومن ثم ينشأ هذا النسيج عدة فراغات تتحد فيما بينها فتؤلف فراغا كبيرًا ممتلئًا بسائل يحيط بكيس المح والقرص والفراغ الأمنيوني، فيفصل الفراغ عندئذٍ عن القرص الجنيني من كل الجهات عن الكتلة الخارجية إلا في موضع واحد؛ حيث يظل القرص متصلًا بالطبقة الخارجية التي تصبح جزءًا من الرحم بواسطة الطبقة الرخوة من النسيج، هذه الطبقة تكون بمثابة ساق للقرص الجنيني تسمى “المعلاق” (CONNECTING STALK)، وتصبح فيما بعد الحبل السري للجنين. وهكذا نرى كيف أن الجنين يتعلق بالرحم بواسطة ساق ليصبح كما تشير إليه الآية “علقة”.
مقطع لقرص جنيني في حوالي اليوم الثامن، يظهر كيف أن القرص الجنيني ينفصل عن كتلة الخلايا الخارجية في قطب من أقطابه، حيث ينشأ فراغ يسمى بـ “الفراغ الأمنيوني” (Amniotic Cavity)، وفي هذا الحين ينشأ غشاء يسمى “غشاء كيس المح” (Exocoelomic membrane) فصل أطراف القرص الجنيني عن الكتلة الخارجية فيما بعد
مقطع يظهر انفصال كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في حوالي اليوم التاسع لتؤلف قرصًا جنينيًّا يتصل من جهتين بكيس المح الأولي (Primary yolk sac) وبالفراغ الأمنيوني (AmnioticCavity) يفصل بينهما وبين الكتلة الخارجية طبقة رخوة من النسيج (Extraembryonicmesoderm)
رسم لجنين في يومه الرابع عشر يظهر كيف أن ساقًا (Connecting stalk) تولدت بين الجنين والكتلة الخارجية عند قطب الفراغ الأمنيوني، الذي لم ينفصل عن الكتلة الخارجية في اليوم الثالث عشر
وفي النهاية تظهر الساق (Connecting stalk) التي تصل الكتلة الداخلية بالكتلة الخارجية بوضوح، وذلك ليتحقق معنى كلمة “علقة” التي وردت في الآية: )ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: 14).
المعنى الثاني، وهو معنى الدودة التي تعيش في البرك:
بعد أن تتمايز النطفة إلى كتلتين، كتلة داخلية وكتلة خارجية، تتحد الكتلة الخارجية ببطانة الرحم، وتخرج النطفة عن شكلها وطبيعتها، وتتهيأ لأخذ شكل جديد؛ هو شكل القرص الجنيني، هذا القرص يتخذ تدريجيًّا شكل علقة.
والحاصل أن الحبل الظهري (NOTHOCORD) ينمو في الأسبوع الثالث فيستطيل الجنين ويتخذ شكلًا كمثريًّا، وفي الوقت نفسه تنمو الطبقة المتوسطة (MESODERM)، فيتصلب الجنين، ويتضخم جزء الطبقة الخارجية للجنين الممتد على جانبي محور الجنين (NEURAL PLATE)، بينما ينخفض الجزء المحوري ابتداء من اليوم الثامن عشر، فيظهر خط طولي في وسط الجنين، ومن ثم تلتحم أطراف الطبقة الخارجية الواقعة على جانبي المحور في اليومين الثاني والعشرين والثالث والعشرين مكونة ميزابًا عصبيًّا (NEURAL GROOVE)، وتتمايز الطبقة المتوسطة التي تلامس هذا الميزاب (PARAXIAL MESODERM) ابتداء من اليوم الواحد والعشرين؛ أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة، فتظهر بعض الشقوق فيها على أثر ذلك، وتنقسم إلى قطاعات مكونة على جانبي الميزاب العصبي بعض ما يسمى بـ “الفلقات البدنية” (SOMITES)، فنجد في نهاية الأمر أن الجنين قد اتخذ شكلًا مستطيلًا نسبيًّا، وأن رأسه قد تضخم، ووسطه قد نحف، وظهر خط طولي في وسطه، وبدأ شكله يتثلم قليلا مع اعوجاج صغير في شكله الكلي حتى إن مظهره الخارجي أصبح يشبه مظهر العلقة؛ أي الدودة.
ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية: “فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة”.
في هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة؛ إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي (السائل الأمنيوسي) تمامًا مثلما تحاط الدودة بالماء، وهكذا يتشابه الجنين مع دودة العلقة من حيث المحيط والوظيفة.
جنين في اليوم الرابع والعشرين (f. E)، الصورة على أقصى اليمين حقيقية (f) جانبية إلى حد ما، ويليها من جهة الشمال رسم طبق الصورة (E) يوضح معالم الجنين
رسم لحيوان العلقة
جنين في اليوم الثاني والعشرين من عمره، الصورة (A.B) على أقصى الشمال (A) حقيقية، بينما يليها من جهة اليمين رسم طبق الصورة (B) يوضح معالم الجنين
من خلال الصور نرى كيف أن الجنين يشبه حيوان العلقة (دودة)، كما تشير إليه الآية:)ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: 14)، وذلك أن رأسه ضخم مثل العلقة، وجسمه منثلم، وذيله نحيف مع انحناء بسيط
المعنى الثالث، وهو الدم الجامد:
نفيد في هذا المضمار أنه يتخلق في هذه الفترة لدى الجنين قلب بدائي مملوء بالدماء ومجموعة أوردة دموية ضيقة على شكل جزر مغلقة تجعل الدم جامدًا غير متحرك.
المعنى الرابع، وهو معنى الدم الرطب:
قد ذكرنا آنفا أن الدم يكون جامدًا غير متحرك، وهذا من حيث المظهر الخارجي، أما في الحقيقة فهو دم سائل (أي: رطب)، ولا يبدأ هذا الدم بالدوران حتى اليوم الثاني والعشرين؛ أي: حين يصبح القلب البدائي قادرًا على الضخ.
المعنى الخامس، وهو شديد الحمرة:
من جراء كثرة الأوردة يظهر الجنين شديد الحمرة.
وهكذا نرى أن المعاني الخمسة تنطبق بشكل رائع على وصف الجنين في هذه المرحلة، مظهرة روائع الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
وفي مجمل القول فإن اسم “العلقة” يعتبر وصفا دقيقًا متكاملًا لهذا الطور، فهذا الاسم يشتمل على وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة: لونها، شكلها، وظيفتها، محيطها، كما يشتمل على الأحداث الداخلية كتكون الدماء والأوعية مقفلة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم”([17]).
في حوالي اليوم الرابع عشر يمتلئ حائط كيس المح بجزر من الدماء (Blood Islands)، كذلك في الساق الموصلة، وفي حائط الكتلة الخارجية (الكوريون)، وبعد حوالي يومين يتخلق تدريجيًّا إلى نهاية الأسبوع الثاني أوعية دموية وقلب بدائي لدى الجنين، في هذا الوقت يكون الدم جامدًا ورطبًا في جدار كيس المح وفي القرص الجنيني (كما تعنيه كلمة”علقة”)، ويتشرب الجنين الغذاء من دماء الأم عبر الفراغ الكبير الذي يحيط به (Extraembryonic coelom) وبكيس المح (Yolk sac)
في اليوم الحادي والعشرين ـ أي قبل نهاية فترة العلقة بثلاثة أيام ـ يكون الجهاز الدموي قد تخلق، ويبدأ القلب البدائي بالضخ، وفي اليوم الثاني والعشرين يمتص الجنين الغذاء من دماء الأم بواسطة خملات المشيمة، ونرى في الشكل السابق رسمًا يظهر لنا جزر الدماء في جدار كيس المح لجنين في اليوم الثامن عشر، وفي الشكل الحالي نرى رسمًا لجنين وقد تخلقت فيه أوعية دموية كثيرة في اليوم الحادي والعشرين، فيظهر من جراء ذلك شديد الحمرة كما تعنيه الآية الكريمة: )ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: ١٤)
وعلى هذا فإن أفضل لفظ يدل على حقيقة هذا الطور من خلق الجنين هو مصطلح العلق أو العلقة؛ حيث تنطبق دلالات هذه الكلمة بكل معانيها على هذه المرحلة في خلق الجنين، ولا يقوم بهذا الوصف الدقيق مصطلح آخر غير مصطلح العلقة، فهذا إعجاز بين للقرآن الكريم في وصف مراحل خلق الإنسان، ومنها مرحلة العلقة تلك.
أما قصر المفسرين للعلقة على معنى الدم، سواء الجامد منه أو الرطب، وأن الجنين في هذه المرحلة لا يكون قطعة من الدم ولا يشبهه ـ فهو أمر مقبول منهم؛ “فإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد عن ربع مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ، فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة إذا بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيرًا؛ فالعلقة العالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عين”([18]).
هذا ما ذهب إليه المفسرون، وهو جزء من حقيقة العلقة، وهم معذورون في ذلك، إلا أن معنى العلقة ودلالتها أوسع من ذلك؛ فهي أولا تطلق على كل ما ينشب ويعلق، وأهم ما يميز هذه المرحلة هي أنها تنشب وتعلق في جدار الرحم بصورة عجيبة؛ حيث تنقسم الكرة الجرثومية إلى طبقتين إحداهما تنغرس في جدار الرحم، والأخرى يتخلق منها الجنين، فالتعلق والنشوب هو أهم ما يميز هذه المرحلة، ولذلك أخذت هذا المسمى بالإضافة إلى الدلالات الأخرى لهذا اللفظ، أما المراحل التالية ـ وإن كان الجنين فيها معلقًا أيضًا ـ فتتميز بسمات أخرى أهم من التعلق؛ حيث تظهر الكتل الجنينية، والأعضاء الأولية، والعظام، والتشكل الجنيني… إلخ.
وكما سبق أن بيّنا أن لفظ العلق أو العلقة بكل دلالاته ينطبق على هذه المرحلة من مراحل خلق الجنين.
وأما ما ذهب إليه علماء الإعجاز العلمي من أن تسمية العلقة في أطوار خلق الجنين راجعة إلى تشابهها بدودة العلق؛ حيث يكون الجنين في هذه المرحلة مماثلًا تمامًا لهيئة ومضمون دودة العلق التي تعيش في الماء، وتمص الدم، فهو أمر ـ أيضًا ـ يدل عليه العلم الحديث ويثبته، ولا يتعارض مع الحقائق العلمية في هذا الشأن؛ فإن “العلق من الديدان الحلقية (ANNELIDA)، أو ما يعرف باسم العلقيات (CLASSHIRUDINIA)، والتي عادة ما تحيا في الماء العذب، وإن كانت أنواع قليلة منها تحيا في الماء المالح، أو حتى على اليابسة في الغابات الاستوائية وشبه الاستوائية الرطبة.
وتعيش ديدان العلق متطفلة على العديد من العوائل (جمع عائل) الفقارية بإلصاق نفسها بجسم العائل بقرصين ماصين قويين عند كل من طرفيها تمتص بواسطتهما شيئًا من دمه، وقد تعيش كحيوانات مفترسة أو رمية على غير الفقاريات من القواقع، وقد زود الخالق سبحانه وتعالى ديدان العلق الماصة للدماء بعدد من المركبات الكيميائية التي تمنع تجلط الدم حتى تتمكن من امتصاص القدر اللازم لاحتياجاتها، وتعرف باسم مركبات الهيرودين (HIRUDIN)، والتي اشتق منها اسم طائفة العلقيات (CLASSHIRUDINIA).
وقد استخدمت هذه الديدان الماصة في القديم، ولا تزال تستخدم في علاج العديد من الأمراض، وذلك بامتصاص الدم الزائد عن حاجة المريض.
ومن العجيب أن يكتشف دارسو علم الأجنة البشرية في القرن العشرين أنه في خلال الأسبوعين الأولين من حياة الجنين تتم عملية تعلق الكيسة الأريمية بجدار الرحم بواسطة المشيمة الابتدائية التي تتحول فيما بعد إلى الحبل السري. وباطراد عملية النمو وتعدد الخلايا، وبدء تكون الأجهزة المختلفة (وفي مقدمتها الجهاز العصبي ممثلًا بالحبل الظهري، والجهاز الدوري الابتدائي ممثلًا بأنابيب القلب، وحزمة من الأوردة والشرايين) فإن الجنين يستطيل في مطلع الأسبوع الثالث (من اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من عمره) ليأخذ هيئة دودة العلق (LEECH) في شكلها، وفي تعلقها بجسم العائل؛ لأن الجنين يتعلق بجدار الرحم، وفي تغذيتها على دم العائل؛ لأن الجنين يتغذى على دم الأم.
وعلى ذلك فإن الوصف القرآني لهذا الطور من أطوار الجنين البشري بتعبير)خلق الإنسان من علق (2)((العلق) في زمن لم يكن هناك وجود لأي وسيلة من وسائل الكشف أو التكبير أو التصوير لطور يتراوح طوله بين (7‚0 مم، 5‚3 مم) ـ يعتبر أمرًا معجزًا حقًّا”([19]).
صورة حقيقية لجنين بشري (25 يوما من العمر) بقياس 3 ملم (مرحلة العلقة)
3) وجه الإعجاز:
لقد عبر القرآن الكريم بدقة وإعجاز متناهيين عن مراحل خلق الجنين، ومنها التعبير بلفظ العلق أو العلقة عن المرحلة التي تلي مرحلة النطفة الأمشاج، وتتمثل في انغراس الكرة الجرثومية في جدار الرحم، وهذا التعبير بهذا المصطلح يعد أفضل تعبير عن هذه المرحلة من خلق الجنين؛ حيث يدل دلالة واضحة كاملة على جميع حقائق هذه المرحلة، فلفظ العلق يدل على النشوب والتعلق بالشيء، ويدل على الدم الجامد والرطب، ولون الحمرة، وعلى دودة العلق، وكل هذه الدلالات تنطبق على الجنين في مرحلة العلقة.
وهذا ما أكده العلم الحديث؛ حيث أثبت علماء الأجنة أن التوتة أو الكرة الجرثومية بمجرد أن تنزل إلى الرحم تأخذ في الانغراس والتشبث به؛ حيث تنقسم هذه الكرة إلى طبقتين؛ داخلية وخارجية. وتأخذ الطبقة الخارجية في مد جذورها إلى بطانة الرحم والانغراس فيه، وتكون الطبقة الداخلية أجزاء الجنين، ومنها يخلق الجنين، ويحاط الجنين في هذه المرحلة بكثير من الأوعية والبرك الدموية، كما تتصل دماؤه في هذا الوقت بدماء الأم ريثما يضخ قلبه الدم؛ ولذلك يبدو وكأنه قطعة دم جامدة متعلقة، وكذلك يستطيل حجمه بما يشبه دودة العلق، وهكذا تجتمع كل دلالات كلمة العلقة لتعبر تعبيرًا دقيقًا وشاملًا عن شكل الجنين وطبيعته في هذه المرحلة، وهذا ما لا يقوم به لفظ آخر، فهو إعجاز دونه إعجاز،)ومن أصدق من الله حديثًا (87)( (النساء).
(*) وَهْم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق. الرد على الإعجاز العلمي حول التكوين الجنيني في القرآن، د. محمد السوري، مقال منشور بموقع: مع اللادينيين والملحدين العرب www.ladeenion1.blogspot.com.
[1]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص204، 205.
[2]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص154: 156.
[3]. الموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشري من الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج1، ص302: 304.
[4]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص465: 467.
[5]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص278.
[6]. لسان العرب، مادة: علق.
[7]. الصحاح في اللغة، مادة: علق.
[8]. تاج العروس، مادة: علق.
[9]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج19، ص16.
[10]. المرجع السابق، ج24، ص519.
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص6.
[12]. المرجع السابق، ج20، ص119.
[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.
[14]. لباب التأويل في معالم التنزيل، البغوي، مرجع سابق، ج5، ص366.
[15]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3938، 3939.
[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج15، ص438.
[17]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص271: 281.
[18]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص203.
[19]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص464، 465.