نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)
وجها إبطال الشبهة:
1) هناك دلائل وإشارات على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض، والبحث والتنقيب فيها، باستخدام الإنسان ما يتيسر له من وسائل وأدوات؛ ليعرف كيف بدء الله الخلق على الأرض، عن طريق الشواهد المحفوظة في الأرض، من صخور وحفريات، والتي تؤكد كلها على أن من خلق، قادر على الإعادة؛ فالذي أبدع في النشأة الأولى ووفر هذه الظروف وهيأها لحياة الإنسان قادر على إعادة تلك النشأة.
2) يقول العلماء: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح القابل للحياة، ولولا ذلك لما ظهرت الحياة على سطحها، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله:)وفي الأرض آيات للموقنين(20)((الذاريات)، وهذا من قبيل السير في الأرض والنظر فيها، والذي أمر به الله تعالى في قوله:)قل سيروا في الأرض( (النمل: ٦٩)، وليس صحيحًا ما توهمه بعض المشككين من أن أمثال هذه الآيات لا تعدو الأمر بالسير في الأرض للاتعاظ؛ فالقرآن الكريم يحدد لنا من خلال هذه الآيات منهجًا علميًّا لمعرفة كيفية بدأ الخلق، فإن حدث ذلك جاء الاعتبار والاتعاظ مبنيًّا على منهج علمي سليم.
التفصيل:
أولا. هناك دلائل على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض:
1) الحقائق العلمية:
في بداية الألفية الثالثة كثر حديث العلماء عن الكتب أو السجلات المحفوظة في الأرض، ولكن ما هذه الكتب؟ وما شكل صفحاتها؟ وما شكل كلماتها؟
منذ 24 ألف سنة مرت الأرض بالعصر الجليدي؛ حيث غطى الجليد مساحات شاسعة من الكرة الأرضية وبارتفاع يبلغ آلاف الأمتار، وأصبح علماء المناخ اليوم يخبروننا بدقة مذهلة عن ذلك العصر: حالة الطقس، درجات الحرارة، تركيب الغلاف الجوي، وغير ذلك من المعلومات التفصيلية، فكيف استطاعوا معرفة ذلك؟
عندما قام أحد الباحثين باقتطاع قطعة جليد من الثلوج المتراكمة على جبال الألب، تبين أنها تعود إلى 24 ألف سنة مضت، وعندما قام بتحليلها واختبارها ظهرت فيها خطوط دقيقة، كل خط يصف حالة الطقس خلال سنة، ولا يزال الهواء المحفوظ بين ذراتها كما هو منذ تلك الفترة، حتى إنهم أطلقوا على هذه العينة اسم “السجل المحفوظ”!
يبحث العلماء في طبقات الجليد التي مضى عليها آلاف السنين عن أسرار بداية الخلق، وقد وجدوا أشياء عجيبة، وهي أن تاريخ العصر الجليدي مكتوب في طبقات الجليد
مقطع من لوح جليد اقتطع من عمق أكثر من 1800 م، ونرى فيه خطوطا يعبر كل خط عن مرحلة زمنية مر بها هذا الجليد، فانظروا كيف كتب الله لنا تاريخ الأرض وأمرنا أن نسير فيها لنبحث عن بداية الخلق، عسى أن ندرك قدرة الله على إحياء الموتى يوم القيامة
وتتكرر هذه العملية مع علماء طبقات الأرض، فقد عرفوا من خلال الصخور عمر الأرض، بل عرفوا أكثر من ذلك، فقد نزل أحد الباحثين إلى أعمق منجم للفحم فوجد ماء متدفقًا بشكل دائم، وعندما أُخذ عينة من هذا الماء وُجد أنها تعود إلى ملايين السنوات! وفيها كائنات حية لا تزال كما هي منذ ذلك الزمن تتكاثر وتعيش في ظروف قاسية بانعدام الضوء والهواء، وتعرف من خلال تحليل هذا الماء على شكل الحياة في ذلك الزمن.
يبحث العلماء اليوم في طبقات التراب عن أسرار الخلق، وقد لاحظوا أن كل طبقة تسجل تاريخًا محدّدًا من عمر الأرض، وهنا نتذكر قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق((العنكبوت:٢٠)، ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن أسرار بدء الخلق مكتوبة في الأرض.
صورة لمقطع في جذع شجرة، يبين عليه وجود حلقات متعددة، كل حلقة لدى دراستها تبين أنها تختزن تاريخ فترة محددة من الزمن، وسبحان الله الذي أودع هذه الأسرار في مخلوقاته
إن هذا الأمر يتكرر مع الباحثين في تاريخ الإنسان، فقد وجدوا سجلات محفوظة داخل كل خلية من خلايا الإنسان، وعندما وجدوا جمجمة بشرية تعود إلى أكثر من مئة ألف سنة، تبين لهم بنتيجة تحليل ذراتها، أن كل شيء موجود ومحفوظ في ثنايا هذه العظام: تركيب ذلك الإنسان الذي عاش قبل مئة ألف سنة، ومواصفاته ومتوسط عمره، وحتى نوعية غذائه وشرابه!
إذًا القاعدة التي نستنتجها من هذه المعطيات أن كل شيء محفوظ بكتاب، ولكن حروف هذا الكتاب هي الذرات، وهذه الكشوف حدثت كلها في القرن العشرين، وهنا نتساءل: هل يوجد في كتاب الله عز وجل حديث عن هذه الكتب المحفوظة؟ إنها الآية التي رد الله بها دعوى المنكرين للبعث بعد الموت، عندما استغربوا بعد تحولهم إلى تراب كيف يعودون للحياة، فماذا أجابهم الله عز وجل؟ يقول تعالى: )قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)( (ق)، وإذا كنا نحن البشر نستطيع معرفة الكثير من الأشياء عن الماضي من خلال هذه المعلومات المدونة على الذرات، فكيف يكون علم الله عز وجل([1])؟
وقد توصل العلماء باستخدام الانحلال الإشعاعي لليورانيوم وتحوله إلى رصاص ـ في قياس عمر الصخور الأرضية والنيزكية ـ إلى أن تكوين القشرة الأرضية (تصلب القشرة) بدأ منذ 4.5 مليار سنة، وأن هذا الرقم هو أيضا عمر صخور القمر.
وقد استخدم العلماء حديثًا الكربون المشع لتحديد عمر الحفريات النباتية والحيوانية وتاريخ الحياة على الأرض، وبهذا فإن كوكب الأرض بدأ تشكيله وتصلب قشرته منذ 4500 مليون سنة، وأن الإنسان زائر متأخر جدًّا لكوكب الأرض، بعد أن سخر له الله ما في الأرض جميعًا: )هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا (1)((الإنسان).
ويؤكد العلم أن الإنسان ظهر منذ بضع عشرات الألوف من السنين دون تحديد نهائي، ويمكن أن نعتبر أن التشكيل الجيولوجي للأرض بدأ من إرساء الجبال النيزكية على قشرتها الصلبة، وانبعاث الماء والهواء من باطن الأرض، وتتابع أفراد المملكة النباتية والحيوانية حتى ظهور الإنسان([2]).
ولقد حث القرآن الكريم على دراسة الأرض ومكوناتها لنتعرف من خلال ذلك على بداية الخلق وعلى النشأة الأولى للكون، كما حث الإنسان على أن يفتش عن المفردات العلمية والكونية ليعلم ماهية بداية الخلق والتكوين.
ولقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التي مر بها عرضًا بيانيًّا دقيقًا، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض.
وثمة توافق دقيق بين ما توصل إليه العلماء في عصرنا الحاضر وبين ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بدء الخلق، التي تتضح للإنسان من خلال سيره في الأرض.
2) التطابق بين الحقيقة العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
جاء ذكر الأرض في عدد من الآيات القرآنية التي لا تخلو من إشارات إلى العديد من الحقائق العلمية عن الأرض، ومن ذلك آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.
ففي قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت: ٢٠)، توجيه من الله عز وجل بأساسيات المنهج العلمي في البحث والدراسة لا يختلف إطلاقًا عن المناهج المعاصرة في دراسة علوم التاريخ الطبيعي وعلوم الكونيات، بل ومعظم العلوم التجريبية، وبهذا المنهج ينصرف الإنسان عن الاستغراقفي التأمل والجدل النظري، إلى علم ينفع قائم على الحركة والتجربة والأخذ بالأسباب.
هذا المنهج الذي يدعو إلى السيرفي الأرض والنظر فيها، حتى تتفتح العيون والعقول والمدارك على تنوع مخلوقات الله، فلا يوجد مكان أو منطقة على سطح الأرض تتجمع أو تعيشفيها كل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات والنباتات، وكيف يمكن لإنسان أن يدرك هذا التنوع دون أن يسيرفي الأرض، ويخرج من نطاق ما ألفته عينه وفطرت عليه مداركه!
كذلكلا يوجد مكان على سطح الأرض تجمعتفيه كل أنواع الصخور، سواء من ناحية التنوعفي التركيب المعدني والكيميائي، أو من ناحية العمر، أو الزمن الذي مر عليها منذ نشأتها، أوفي تنوع ما تحويه من معادن وخامات، أو ما تسجله من تحركات القشرة الأرضية… فالمشيفي الأرض والتدقيقفيما نراه ونلمسه قد يقودنا إلى العثور على النيازك، وهي صخور ومعادن سقطت على الأرض من خارجها، وقادت إلى معارف هائلة عن تركيب الكون الخارجي ونشأة الأرض.
والمنهجلا يدعو إلى مجرد النظر إلى هذه المخلوقات والانبهار بعظمة الخالق وقدرته، وإن كان مطلوبًا من عامة الناس، ولكن يدعو إلى ما هو أبعد وأعمق وأكثر نفعًا؛ إنه يدعو إلى التدبرفي كيفية بدء الخلق لكل ما تراه أعيننا أو تلمسه جوارحنا، وهذا يذكر الإنسان بإحدى تبعات الأمانة التي حملها، وبإحدى صور التكريم الذي كرمه به ربه على سائر المخلوقات، ألا وهو العقل والعلم والتمييز([3]).
- الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
o سيروا: امشوا([4]).
o انظروا: نظر إلى الشيء أبصره وتأمله بعينه، وفيه: تدبر وفكر([5]). و”النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص”([6]).
o الخلق: “الخلق أصله التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: )خلق السماوات والأرض( ؛ أي: أبدعهما بدلالة قوله:)بديع السماوات والأرض(، ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو:)خلقكم من نفس واحدة(“([7]).
- أقوال المفسرين:
ذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن الله عز وجل بعد أن أنكر على الكافرين ترك الاستدلال بما هو بمرأي منهم، وذلك في قوله تعالى:)أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)((العنكبوت)، انتقل إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعوُّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم، فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.
وإنما أمر بالسير في الأرض؛ لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوياتها، ويمر به على منازل الأمم، حاضرها وبائدها، فيرى كثيرًا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها.
فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل؛ فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة، وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي؛ لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل، فيظن أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه قادر على إيجاد أمثالها، فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن؛ لأن للشيء المتقرر تحققًا محسوسًا، وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر؛ لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر، وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشىء النشأة الآخرة([8]).
وفي هذا الصدد يقول الشيخ الشعراوي: السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟
الحقيقة أننا كما قال عز وجل: )قل سيروا في الأرض((العنكبوت: ٢٠)؛ أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذًا حين تسير في الأرض، فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها… والسير هنا مترتب عليه الاعتبار: )كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ( (العنكبوت: ٢٠) وما دمنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخلق أهون، كما قال عز وجل: )أفعيينا بالخلق الأول((ق: ١٥) لذلك يؤكد الخالق سبحانه وتعالى هذه القدرة بقوله تعالى:) إن الله على كل شيء قدير(20)((العنكبوت) ([9]).
ويقول الدكتور محمد السيد طنطاوي: أمر سبحانه وتعالى رسوله أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر في أحوال هذا الكون، لعل هذا التأمل يهديهم إلى الحق فقال: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة( (العنكبوت: ٢٠).
أي: قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين للبعث: سيحوا في الأرض، وتتبعوا أحوال الخلق، وتأملوا كيف خلقهم الله عز وجل ابتداء على أطوار مختلفة، وطبائع متمايزة، وأحوال شتى.
والمقصود بالأمر بالسير: التدبر والتأمل والاعتبار؛ لأن من شأن التنقل في جنبات الأرض أنه يوقظ الحس، ويبعث على التفكر، ويفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين، ولم يتأملها القلب قبل ذلك([10]).
وبهذا يتضح مدى التوافق بين الآية القرآنية وبين الحقائق العلمية، فكل منهما حق ومصدره واحد، وهو الحق سبحانه وتعالى، وصدق المولى عز وجل إذ يقول:) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
3) وجه الإعجاز:
على الرغم من أن عملية بدء الخلق قد تـمت في غيبة الإنسان إلا أن الله تعالى قد ترك لنا في أنفسنا، وفي صخور الأرض من حولنا، وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ على الوصول إلى تصور ما عن كيفية الخلق، وذلك عن طريق السير في الأرض، وإلى هذا أشار الله عز وجل في قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ( (العنكبوت: ٢٠).
ثانيا. من آيات الله في خلق الأرض وجعلها صالحة للعمران:
1) الحقائق العلمية:
- بعد الأرض من الشمس:
يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مئة وخمسين مليونًا من الكيلو مترات، وقد استخدمت هذه المسافة كوحدة فلكية للقياس في فسحة الكون… وقد قدرت الطاقة التي تشغلها الشمس من كل سنتيمتر مربع على سطحها بحوالي عشرة أحصنة ميكانيكية، ولا يصل الأرض سوى جزء واحد من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة، وهو القدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية.
ولو كانت الأرض أقرب قليلًا إلى الشمس، لكانت كمية الطاقة التي تصلها كافية لإحراق جميع صور الحياة على سطحها، ولتبخير مياهها، ولخلخلة غلافها الغازي.
وباختلاف بعد الأرض عن الشمس قربًا أو بعدًا يختلف طول السنة، وطول كل فصل من الفصول نقصًا أو زيادة، مما يؤدي إلى اختلال ميزان الحياة على سطحها([11]).
كما أن الله تبارك وتعالى جعل هذه الأرض في مدارها الصحيح والمناسب للحياة، فالعلماء اليوم يقولون: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح، والقابل للحياة، ولولا ذلك لم تظهر الحياة على ظهرها أبدًا.
إن وضع الأرض في هذا المدار يرد على من قالوا بأن الكون نشأ بالمصادفة، فلا يمكن للمصادفة أن تضع الكرة الأرضية بالذات على هذه المسافة الدقيقة من الشمس وتجعلها تدور بالحركة المناسبة؛ لأن الأرض لو كانت أسرع مما هي عليه الآن لقذفت بالمخلوقات إلى الفضاء الخارجي، ولم تستطع جاذبيتها الحفاظ على الاستقرار للناس([12]).
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد مدار الأرض حول الشمس بشكله البيضاني (الإهليجي)، وتحديد وضع الأرض فيه قربًا وبعدًا على مسافات منضبطة من الشمس، يلعب دورًا مهمًّا في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلى كل جزء من أجزاء الأرض، وهو من أهم العوامل لجعلها صالحة لنمط الحياة المزدهرة على سطحها، وهذا كله ناتج عن الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة (النابذة) المركزية التي دفعت بالأرض إلى خارج نطاق الشمس، وشدة جاذبية الشمس لها([13]).
- بنية الأرض:
أثبتت دراسات الأرض أنها تنبني من عدة نطق محددة حول كرة مصمتة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب (الداخلي)، ولهذا اللب الصلب ـ كما لكل نطاق من نطق الأرض ـ دوره في جعل هذا الكوكب صالحًا للعمران بالحياة الأرضية في جميع صورها.
رسم توضيحي لبنية الأرض الداخلية
كذلك فإن لها مجال جاذبية، لولاه لهرب منها كل من غلافيها الغازي والمائي، ولو فقدتهما ـ ولو جزئيا ـ لاستحالت الحياة على الأرض.
كما أن للأرض مجالًا مغناطيسيًّا ثنائي القطبية يحمي الأرض من وابل الأشعة الكونية المتساقط باتجاهها في كل لحظة.
المجال المغناطيسي المحيط بالأرض يحميها
من الأشعة الكونية المتساقطة باتجاهها وبدونها
تتعرض صور الحياة على الأرض للهلاك
وقد لعبت الجبال ـ ولا تزال تلعب ـ دورًا مهمًّا في تثبيت الأرض ككوكب يدور حول محوره، وتقلل من درجة ترنحه… ولولا نطاق الضعف الأرضي ما أمكن لهذه العمليات الداخلية للأرض أن تتم، وهي من ضرورات جعلها صالحة للعمران([14]).
3) التطابق بين ما أثبته العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد حث المولى عز وجل على تنمية الملكة العقلية على التفكر في الأنفس والآفاق، كما طالب ببناء القناعة به على نتائج التبصر والتفكير المعمق في الكون والنفس والحياة والتاريخ، لاكتشاف دقة التدبير وبديع الصنع، وما يلزم من ذلك من إفراد الله عز وجل بالألوهية، فتؤسس قناعة الإيمان به على هذه النتائج مما يعطي إيمانًا قائمًا على البرهان لا على التقليد، وعلى الحجة لا على الظنون.
والأرض كوكب فريد في كل صفة من صفاته، مما أهله بجدارة أن يكون مهدًا للحياة الأرضية بكل مواصفاتها، ولعل هذا التأهيل هو أحد مقاصد قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ( (الذاريات)، وقد بينا في الحقائق العلمية بعضًا من هذا التأهيل الذي أشارت إليه الآية.
- من الدلالات اللغوية في قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ((الذاريات):
o آيات: هي من الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم([15]).
o الموقنين: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم([16]).
- من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى:)وفي الأرض آيات للموقنين (20) ((الذاريات) يقول ابن كثير رحمه الله : “أي: فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار”([17]).
ويذكر القرطبي رحمه الله : أنه تعالى يبين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيمًا، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قوامًا للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة.
وأنه تعالى قد خص الموقنين؛ لأنهم العارفون المحققون وحدانية ربهم، كما أنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها([18]).
بينما يوضح سيد قطب رحمه الله : أن هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه ، على نحو يكاد يكون فريدًا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل.
هذا الكون الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة، التي يبلغ عدد المعروف منها فقط ـ والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون ـ مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم .
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدًّا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغرًا أو كبرًا، لو تغير وضعها من الشمس قربًا أو بعدًا.
لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا، لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ… وغير ذلك الكثير مما لو مضى الإنسان ـ بل لو مضى الأناسي جميعا ـ يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات ـ ما انتهى لهم قول ولا إشارة، والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب، والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة([19]).
ففي الآية إشارة إلى عدد من الآيات التي تفردت وتميزت بها الأرض عن سائر الكواكب، وهذا ما أثبتته حقائق العلم الحديث.
3) وجه الإعجاز:
آيات الله في الأرض أكثر من أن تحصى، وقد أشارت إليها هذه الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا عز وجل:)وفي الأرض آيات للموقنين (20)((الذاريات)، فسبحان من خلق الأرض بهذا القدر من إحكام الصنعة، وشمول العلم، وجلال الربوبية وعظمة الألوهية، والتفرد بالوحدانية المطلقة، والقدرة على إفناء هذا الخلق، ثم إعادة بعثه، وفي هذه الآيات الحجة على منكري البعث والجزاء.
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. )وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)((ق) ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[2]. موسوعة البحوث والمقالات العلمية، علي بن نايف الشحوذ، مجلة الإصلاح، العدد (325)، بتاريخ 15/7/1995م، ص5.
[3]. )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ((العنكبوت:20) ، د. أحمد حسنين حشاد، مقال منشور بموقع: مدونات مكتوب www.maktoob.com.
[4]. المعجم الوسيط، مادة: سار.
[5]. المعجم الوسيط، مادة: نظر.
[6]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص497.
[7]. المرجع السابق، ص157.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج20، ص230 بتصرف.
[9]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج18، ص11118: 11120 بتصرف.
[10]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص26، 27 بتصرف.
[11]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص84: 88 بتصرف.
[12]. )وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)((الذاريات): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[13] . من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص89، 90 بتصرف.
[14]. المرجع السابق، ص90: 96 بتصرف.
[15]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص33.
[16]. المرجع السابق، ص252.
[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص235.
[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص39 بتصرف.
[19]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3378، 3379 بتصرف.