نفي الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد)
وجها إبطال الشبهة:
1) يقدر القرآن في قوله تعالى:وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد((الحديد: ٢٥)أن معدن الحديد تم إنزاله من السماء ولم يكن موجودا في الأرض، وهذا يتطابق مع ما توصل إليه العلماء حديثا، فهم يقولون: إن انفجارات النجوم العملاقة ساعدت على تشكل الحديد الذي تم قذفه على شكل نيازك اصطدمت بالأرض واستقرت في باطنها، ولا حجة لمن يقول: إنه من غير المعقول أن يكون الحديد الذي يكون باطن الأرض ويشكل 35% من كتلتها عنصرا وافدا، ذاك أن الأرض عند انفصالها عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد، ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية التي تحركت بحكم كثافتها الأعلى من كثافة الأرض الابتدائية إلى مركزها.
2) إن سياق آية الحديد يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء ـ إنزال الكتاب والميزان ـ وجاءت (وأنزلنا الحديد) معطوفة على ما قبلها لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال. أما آية الزمر التي يحتج بها الطاعن ـ ومثلها في ذلك آية الأعراف ـ فإن سياقها يتحدث عن الخلق؛ إذ جاء الحديث عن خلق الإنسان ثم جاء ذكر الأنعام، ومن ثم فإن الإنزال هنا بمعنى الخلق، فالأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره ما لم توجد قرينة صارفة، وعليه فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق كما يدعي الطاعن، فكان حريا به أن يحكم على الآيات من خلال سياقها.
التفصيل:
أولا. يؤكد العلماء أن الحديد تم إنزاله من السماء:
1) الحقائق العلمية:
في دراسة لتوزيع العناصر المختلفة في الجزء المدرك من الكون، لوحظ أن غاز الإيدروجين هو أكثر العناصر شيوعا؛ إذ يكون أكثر من 74% من مادة الكون المنظور، ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي 24% من مادة الكون المنظور، وأن هذين الغازين ـ وهما يمثلان أخف العناصر وأبسطها بناء ـ يكونان معا أكثر من 98% من مادة الجزء المدرك من الكون، بينما باقي العناصر المعروفة لنا وهي أكثر من مائة عنصر مجتمعة تكون أقل من 2% من مادة الكون المنظور.
وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج المنطقي أن أنوية غاز الإيدروجين هي لبنات بناء جميع العناصر المعروفة لنا، والتي تخلقت باندماج أنوية هذا الغاز البسيط مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم: عملية الاندماج النووي، تنطلق منها كميات هائلة من الطاقة التي تعرف باسم: طاقة النجوم، وتتم عملية الاندماج النووي في داخل نجوم السماء الدنيا بتسلسل من أخف العناصر إلى أعلاها وزنا ذريا وتعقيدا في البناء حتى يتحول قلب النجم إلى الحديد، فينفجر النجم وتتناثر أشلاؤه في صفحة السماء لتصطاد عددا من اللبنات الأولية للمادة مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري، أو تهبط إلى أحد الكواكب أو النجوم التي تحتاج في تواجدها إلى الحديد.
فشمسنا تتكون أساسا من غاز الإيدروجين الذي تندمج أنويته مع بعضها البعض لتكون غاز الهيليوم، وتنطلق طاقة هائلة تبلغ عشرة ملايين درجة مئوية، ويتحكم في هذا التفاعل عاملان، هما زيادة نسبة غاز الهيليوم المتخلق بالتدريج، وتمدد الشمس بالارتفاع المطرد في درجة حرارة لبها، وباستمرار هذه العملية تزداد درجة الحرارة في داخل الشمس تدريجيا، وبازديادها ينتقل التفاعل إلى المرحلة التالية التي تندمج فيها نوى ذرات الهيليوم مع بعضها البعض في سلسلة من الاندماجات المتسلسلة حتى تصل إلى إنتاج نوى ذرات الكربون (12)، ثم الأكسجين (16) ثم النيون (20)، وهكذا.
وفي نجم عادي مثل شمسنا التي تقدر درجة حرارة سطحها بحوالي ستة آلاف درجة مئوية، وتزداد درجة الحرارة تدريجيا في اتجاه مركز الشمس حتى تصل إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية، ويقدر علماء الفيزياء الفلكية أنه بتحول نصف كمية الإيدروجين الشمسي تقريبا إلى الهيليوم، فإن درجة الحرارة في لب الشمس ستصل إلى مئة مليون درجة مئوية، مما يدفع بنوى ذرات الهيليوم المختلقة إلى الاندماج في المراحل التالية من عملية الاندماج النووي، مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري مثل الكربون ومطلقة كما أعلى من الطاقة.
ويقدر العلماء أنه عندما تصل درجة حرارة لب الشمس إلى ست مئة مليون درجة مئوية يتحول الكربون إلى صوديوم ثم إلى ماغنسيوم ثم إلى نيون، ثم تنتج عمليات الاندماج النووي الآتية، عناصر الألومنيوم، والسيليكون، والكبريت، والفسفور، والكلور، والأرجون، والبوتاسيوم، والكالسيوم، على التوالي، مع ارتفاع مطرد في درجة الحرارة، حتى تصل إلى ألفي مليون درجة مئوية حين يتحول لب النجم إلى مجموعات التيتانيوم، والفاناديوم، والكروم، والمنجنيز، ومجموعة عناصر الحديد (الحديد والكوبالت والنيكل).
ولما كان تخليق هذه العناصر يحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة جدا لا تتوافر إلا في مراحل خاصة في حياة النجوم العملاقة تعرف باسم: العماليق العظام، وهي مراحل توهج شديد جدا، فإنها لا تتم في كل نجم من نجوم السماء، ولكن في مراحل خاصة من مراحل حياة النجوم العملاقة عند انفجارها تعرف باسم مرحلة المستعرات العظمى، وحين يتحول لب النجم إلى حديد، فإنه يستهلك طاقة النجم بدلا من إضافة مزيد من الطاقة إليه؛ وذلك لأن نواة ذرة الحديد هي أشد نوى العناصر تماسكا، وهنا ينفجر النجم على هيئة ما يسمى باسم: المستعر الأعظم من النمط الأول أو الثاني حسب الكتلة الابتدائية للنجم، وتتناثر أشلاء النجم المنفجر في صفحة السماء لتدخل في نطاق جاذبية أجرام سماوية تحتاج إلى هذا الحديد ،تماما كما تصل النيازك الحديدية إلى أرضنا بملايين الأطنان في كل عام.
فجوة ضخمة (يبلغ قطرها 32 كم تقريبا) تكونت من جراء ارتطام نيزك بأرض ولاية أريزونا
ولما كانت نسبة الحديد في شمسنا لا تتعدى 0٫0037%، وهي أقل بكثير من نسبة الحديد في كل من الأرض وعطارد والزهرة والمريخ، وفي النيازك الحديدية التي تصل إلينا من فسحة الكون، ولما كانت درجة حرارة لب الشمس لم تصل بعد إلى الحد الذي يمكنها من إنتاج السيليكون أو الماغنسيوم، فضلا عن الحديد ـ كان من البديهي استنتاج أن كلا من الشمس والأرض وكواكب المجموعة الشمسية المشتملة على نسب مختلفة من الحديد، قد استمدوا ما بهم من حديد من مصدر خارجي عن مجموعتنا الشمسية في فسحة الكون.
وعلى ذلك فإن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد المكون من العناصر الخفيفة، ثم رجمت هذه الكومة بوابل من النيازك الحديدية التي انطلقت إليها من خارج المجموعة الشمسية، فاستقرت في لبها بفضل كثافتها العالية وسرعتها الكونية الفائقة، فانصهرت بحرارة الاستقرار، وصهرت كومة الرماد ومايزتها إلى سبع أرضين: لب صلب على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل تصل فيها نسبة الحديد إلى 90% والنيكل إلى 9% وبعض العناصر الخفيفة من مثل: الكبريت، والفسفور، والكربون إلى 1%، يليه إلى الخارج لب سائل له نفس التركيب الكيميائي تقريبا، ويكون لبا الأرض: الصلب والسائل معا حوالي 31% من مجموع كتلة الأرض.
ويلي لب الأرض إلى الخارج وشاح الأرض(mante)، المكون من ثلاثة نطق: (أسفل، أوسط، أعلى)، ثم الغلاف الصخري للأرض (lithosphere)، وهو مكون من نطاقين، قشرة الأرض(crust) وما دون القشرة (subcrust)، وتتناقص نسبة الحديد من لب الأرض إلى الخارج باستمرار حتى تصل إلى 5٫6 % في قشرة الأرض .
صورة حقيقية لأحد النيازك التي تصل إلى الأرض سنويا بمعدل مليون إلى 20 مليون طن، ومنها النيازك الحديدية، والحديدية الصخرية، والصخرية
من هنا ساد الاعتقاد بأن الحديد الموجود في الأرض والذي يشكل 35٫9% من كتلتها، لا بد وأنه قد تكون في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل العماليق العظام، والتي انفجرت على هيئة المستعرات العظام فتناثرت أشلاؤها في صفحة الكون، ونزلت إلى الأرض على هيئة وابل من النيازك الحديدية، وبذلك أصبح من الثابت علميا أن كل حديد الأرض قد أنزل إليها إنزالا من السماء، ليس هذا فقط، بل إن الحديد في مجموعتنا الشمسية كلها قد أنزل كذلك إليها من السماء، وهي حقيقة لم يتوصل العلماء إلى فهمها إلا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين([1]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
ينكر الطاعن الإعجاز العلمي في قوله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)( (الحديد) قائلا: يدعي الإعجازيون أن القرآن يقول: إن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض، ويقولون: إن الحديد لم يتكون في المجموعة الشمسية بل جاء إليها من الخارج؛ لأنه لم يكن بها ما يكفي من طاقة لظهور عنصر الحديد.
ويتساءل الطاعن: كيف لا يكون الحديد من العناصر المكونة لكوكب الأرض وهو من أكثر العناصر انتشارا بها، ويشكل حوالي 35% من مجموع كتلتها؟ كما أن اللب الداخلي للأرض يحتوي على الحديد، فكيف يستوي هذا مع عدم ظهوره فيها إلا عن طريق هبوطه بالنيازك؟
وردا على ذلك نقول: ليس بغريب أن يذكر الطاعن كلاما كهذا؛ فمن الواضح أنه لم يطلع على كثير من الحقائق العلمية التي أثبتها العلماء حديثا بشأن تكون عنصر الحديد، فإلى أواخر الستينيات من القرن العشرين لم يكن أحد من العلماء يتصور ـ ولو من قبيل التخيل ـ أن هذا القدر الهائل من الحديد قد أنزل إلى الأرض من السماء إنزالا حقيقيا، كيف أنزل؟ وكيف تسنى له اختراق الغلاف الصخري للأرض بهذه الكميات المذهلة؟ وكيف أمكنه الاستمرار في التحرك بداخل الأرض حتى وصل إلى لبها؟ وكيف شكل كلا من لب الأرض الصلب ولبها السائل على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل، يحيط بها نطاق منصهر من التركيب نفسه؟ ثم كيف أخذت نسبته في التناقص باستمرار في اتجاه قشرة الأرض الصلبة؟
ولكن في أواخر القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك والفيزياء الفلكية أن الحديد لا يتكون في الجزء المدرك من الكون إلا في مراحل محددة من حياة النجوم العملاقة ـ كما ذكرنا آنفا ـ التي تسمى بالعماليق العظام، والتي بعد أن يتحول لبها بالكامل إلى حديد تنفجر على هيئة المستعرات العظام، وبانفجارها تتناثر مكوناتها بما فيها الحديد من صفحة السماء، فيدخل هذا الحديد ـ بتقدير من الله تعالى ـ في مجال جاذبية أجرام سماوية تحتاج إليه، مثل أرضنا البدائية التي وصلها الحديد الكوني وهي كومة من الرماد، فاندفع إلى قلب تلك الكومة بحكم كثافته العالية وسرعته الكونية المندفع بها، فانصهر بحرارة الاستقرار في قلب الأرض البدائية وصهرها، ومايزها إلى سبع أرضين([2]).
مراحل تحول قلب النجم إلى حديد
ويقول العلماء: إن الأرض تشكلت قبل أربعة بلايين ونصف بليون عام، وكانت النيازك والمذنبات تقصفها بشدة وعنف بحيث كانت الحرارة المنبعثة من هذا القصف ـ فائق السرعة ـ عظيمة لدرجة كافية لإذابة الكوكب بأكمله، ثم بدأت الأرض تبرد بعد ذلك واستمرت تبرد إلى اليوم، وأخذت المواد الأكثر كثافة ـ مثل الحديد ـ والقادمة من تلك النيازك طريقها إلى قلب الأرض ومركزها، بينما صعدت السيليكات الأخف وزنا، وكذلك مركبات الأكسجين الأخرى والماء القادم من المذنبات إلى قرب السطح([3]).
وقد أكد البروفيسور “إرمسترونج” ـ وهو من أكبر علماء وكالة ناسا الفضائية الأمريكية ـ حينما سئل عن كيفية تكون الحديد: “لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، فذرات الحديد ذات صفات مميزة، ولكي تتحد الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد، فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربعة أضعاف الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية! ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون بها”([4]).
وتذكر الموسوعة البريطانية: “إن أصل تكون الأرض عن طريق النمو التراكمي للكويكبات هي فرضية موثقة، والنيازك هي الأمثلة المحتملة للكويكبات التي عاشت في مرحلة ما قبل التكوكب من النظام الشمسي، وهكذا يظهر أن الأرض قد تشكلت بتراكم الأجسام الصلبة مع التركيب المتوسط للنيازك الحجرية”.
صورة تثبت أن الحديد نزل من السماء
والصورة السابقة صورة عرضها موقع ناسا للفضاء، وقال العلماء: إنها صورة لمذنب يسبح في الكون، ويبلغ طوله أكثر من 30 مليون كيلو متر، ومن المحتمل أن يصطدم بأي كوكب يصادفه، ولدى تحليل هذا المذنب تبين أن ذيله عبارة عن مركبات حديد، أما النيازك التي سقطت على الأرض منذ بلايين السنين والمحملة بالحديد، فقد أغنت الأرض بهذا العنصر؛ ولذلك عندما تحدث القرآن عن الحديد أكد أنه نزل من السماء:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، وهذا يتطابق مع العديد من الدراسات التي تؤكد نزول الحديد واستقراره في باطن الأرض([5]).
وعلى الرغم من انتقادات الطاعنين ستبقى هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي الشاهدة على صدق النبوة المحمدية، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من ألف القرآن، فمن أين جاء بهذا العلم؟ ومن الذي علمه هذه الحقائق قبل أن يكتشفها العلماء بأربعة عشر قرنا؟ إنه الله تعالى الذي وصف نبيه بقوله: ) وما ينطق عن الهوى (3)((النجم).
ثانيا. الإنزال في آية الحديد إنزال حقيقي ولا يعني الخلق فقط:
لجأ المفسرون عند تفسير قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد( (الحديد: 25) إلى أن الإنزال هنا بمعنى: الخلق والإيجاد والتقدير والتسخير، ومن هنا يلتقط المشككون طرف الخيط مستندين إلى أقوال المفسرين من ناحية، وإلى قوله تعالى:)وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: ٦) من ناحية أخرى، قائلين: إن “أنزل” هنا تعني خلق، قال ابن كثير: قوله تعالى: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج((الزمر: ٦)؛ أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج، وهي المذكورة في سورة الأنعام ثمانية أزواج؛ من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وهنا يسأل الطاعن سؤالا مؤداه: هل هبطت الأنعام أيضا من السماء مثلما هبط الحديد كما يزعم الإعجازيون؟!
وهم لا يكتفون بذلك، بل يستندون إلى آيات أخرى لتعضيد موقفهم، منها قوله تعالى:) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا((الأعراف: ٢٦)، ويتبادر إلى ذهن الطاعن هنا السؤال نفسه الذي سبق وأن طرحه: هل هبط اللباس علينا من السماء أيضا؟
وللرد على هذه الشبهة يجب ـ أولا ـ أن نسرد بعض من الآيات مقتطعة من سياقها؛ جريا على طريقة أولئك الذين يلقون بشبههم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أو أنهم جاءوا بأمور لم يسبقهم إليها أحد، فعلى طريقتهم في فهم كتاب الله، فالويل كل الويل لمن صلى، فالله تعالى يقول: )فويل للمصلين (4)((الماعون)، وكذلك على الدعاة أن يبلغوا أقوامهم بترك الصلاة؛ لأن الله تعالى يقول:) يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة((النساء: 43)، وهكذا… فالأصل أن يؤخذ الكلام في سياقه ليتضح معناه، أما اقتطاع الكلام من سياقه فإنه يخل بمعناه غالبا.
وترتيبا على ما سبق نقول:
- إن ما استشهد به من أقوال أئمة المفسرين من قولهم: إن معنى الإنزال في آية الحديد الخلق، فهو اجتهاد من علماء مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، فهم مأجورون على كل حال، ولكن هذا لا يعني أنهم معصومون، ولا أن ما يقولونه حجة على كتاب الله أو على خلقه، إنما يتضح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عن طريق موافقة الحقائق العلمية الثابتة حديثا ـ سواء من المسلمين أو غيرهم ـ لما جاء في كتاب الله أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الموافقة حجة دامغة على أن القرآن من عند عليم خبير، خالق لهذا الكون، لا من عند بشر يخطئ ويصيب.
ومن هنا يتضح معنى قوله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)((فصلت)، فهذه الآية تنص على أن الله سيجعل في هذا القرآن من الآيات والأدلة ما بها تقوم الحجة على الخلق، إلى قيام الساعة وليس لزمن محدود أو عصر من العصور، فمن أين تريد أن يعلم المفسر الذي عاش قبل ثمان مئة سنة بهذه الدقائق الكونية، التي ما عرفها أحد قبله ولا بعده إلا بعد أن تراكمت الجهود واخترعت وسائل الكشف والمراقبة!([6]).
وليس معنى هذا أن المفسرين كلهم فسروا الإنزال بالخلق، ولكن منهم من فسر اللفظ على ظاهره، فنحن إذا بحثنا أقوال المفسرين في هذه المسألة، نجدهم منقسمين إلى فريقين؛ الأول: فسر اللفظ على ظاهره، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، بمعنى: أن الله أنزل الحديد من السماء كما أنزل آدم من السماء، وهو قول ابن عباس وعكرمة، وإليه ذهب الطبري والقرطبي والواحدي. والثاني: اضطر إلى تأويل اللفظ عن ظاهره؛ لاستبعاد إمكانية تصور نزول الحديد إلى الأرض من السماء، وكما يشاهدون في أزمنتهم وبيئاتهم من استخراج الحديد من باطن الأرض، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، بمعنى: أنشأناه وجعلناه، وهو قول الحسن، وإليه ذهب ابن كثير والثعالبي والشوكاني وكثير من المفسرين([7]).
- إذا أخذنا كلمة (أنزلنا) يجب أن نحكم على معناها من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها، فسياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فتختلف معه كلمة (أنزلنا)، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أصحاب الشبهة، قال الله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، فمن أين جاءت الكتب السماوية؟ ألم تنزل من السماء على أنبياء الله إلى الأرض؟ ألم ينزل الزبور وألواح التوراة على داود وموسى إلى الأرض؟، إذًا كلمة (وأنزلنا معهم) تعني أنها نزلت من السماء إلى الأرض؛ ومن ثم فإن سياق الآية يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء، وجاءت (وأنزلنا معهم) معطوفة على ما قبلها؛ لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال من السماء على الأرض بعد إنزال الكتاب والميزان، إذًا “وأنزلنا الحديد” معناه هبوطه من السماء.
- أما سورة الزمر فالآية الكريمة تتحدث عن خلق الإنسان، ثم جاء ذكر الأنعام: )خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر)، إذا سياق الآية يتحدث عن الخلق، لذلك فإن (أنزلنا) هنا تعني الخلق؛ لأننا ـ كما قلنا ـ لا نأخذ معنى كلمة لها عدة دلالات من آيات مختلفة، ولكن نأخذ معناها من سياق الآية التي ذكرت فيها، فمعنى كلمة (أنزلنا) في سورة الحديد هو الهبوط من السماء، مهما كان معنى كلمة (أنزلنا) في سورة الزمر، سواء كانت الخلق أو الهبوط([8]).
- إن ظاهرة تباين اللفظ تبعا للسياق من الخصائص الأساسية في لغات التخاطب، وهي أجلى ما تكون في لغة القرآن الكريم، وسماها اللغويون (الوجوه)، والدلالات المعجمية للفظ نفسه لا يتحدد إحداهما إلا من خلال السياق، والدلالة الحسية في (أنزلنا) لا تستبعد إلا بقرائن صارفة ولا تنفي الدلالة المعنوية، أما في قوله تعالى:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، فيستقيم حمل لفظ (الإنزال) على الأصل، وهو الدلالة الحسية، باعتبار تعلق المقام هنا بخلق الأرض، لمجيء بيان إنزال الحديد، وهو من أثقل مكونات الأرض، في مقابل بيان إخراج المواد الأخف من الأرض نحو السطح في قوله تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرساها (32)((النازعات)، وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة من خروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان، المعبر عنها باللفظ الجامع (مرعاها)، بعد التهيئة بتكثف بخار الماء وانقشاع دخان البراكين، في مقابل هبوط أثقل المواد من مثل الحديد نحو لب الأرض، الذي يتكون معظمه بالفعل من حديد([9]).
- ومن ثم فإن الأصل هو حمل التعبير في القرآن على ظاهره، حتى تأتي قرينة صارفة تبيح حمله على ضرب المثل، والتمثيل في القرآن كثير، وهو أبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)( (النور)، وقوله تعالى:)وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21)((الحشر)، وقوله تعالى: )ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)((إبراهيم).
وفي قوله تعالى:)يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء) ظاهر التعبير: )وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء)انتقال ضوء الشمس نحو الأرض، ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ((النساء:174)، ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور) وصرفه عن ظاهر دلالته، وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم، وهكذا نرى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
فقد ورد فعل (الإنزال) هنا؛ ليفيد الانتقال من الأعلى إلى الأسفل، كما في قوله تعالى: )وأنزل من السماء ماء((البقرة:22)، وأما قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد ((الحديد:25)؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتقاء ما يصرف اللفظ عن ظاهره، ولا حجة لمن يقول: إن معظم لب الأرض حديد؛ حيث طابقت شهادة الواقع صريح الآية.
وقد تمنع القرائن الصارفة من حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: )هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين((الفتح: ٤)، والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكوينا ماديا، ولذا جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صرف النزول إلى (الجعل)، فقوله: )أنزل السكينة((الفتح: ٤)؛ أي: جعل الطمأنينة.
وفي وصف بعثة النبيين ـ عليهم السلام أجمعين ـ في قوله تعالى:)كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق((البقرة: ٢١٣) لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفا لهم وبيانا لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب، ومثله قوله تعالى: )فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)((الأعراف).
- أما قول الله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير((الأعراف: ٢٦)، فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض، ولذا اجتهد المفسرون في صرف “أنزلنا” عن معنى الهبوط، قال الشوكاني: عبر عز وجل بالإنزال عن الخلق؛ أي: خلقنا لكم لباسا. وقال الجصاص: وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوانات وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء.
- وأخيرا ليس هناك ما يمنع أن يكون الإنزال في قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا((الأعراف: 26) إنزالا حقيقيا وليس بمعنى الخلق، فحرف الجر الملصق بالضمير (عليكم) يدل على أن الإنزال في هذه الآية حقيقي، فالله خلق ثم أنزل، وكذلك ليس هناك ما يمنع أن تكون الأنعام أنزلت مع كونها مخلوقة في الأصل، فهي خلقت ثم أنزلت، مثلما خلق آدم وحواء وإبليس ثم أنزلوا.
وانظر إلى قوله تعالى:)وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)((الأنعام)، فهل يزعم معترض أن التنزيل هنا بمعنى الخلق؟ كلا لأن هذا مخالف لسياق الآية، فالملائكة تنزل من السماء وهي مخلوقة، كما أن نزول الخبر على بني إسرائيل لا ينفي صنع الإنسان له، فقد جاء في التوراة، قال الرب لموسى: “أنا أمطر لكم خبزا من السماء، فيخرج الشعب، ويلتقطون حاجة اليوم بيومها” (سفر الخروج 16: 4)([10]).
ومن ثم فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق فقط، ويجب علينا أن نحكم على معنى كلمة أنزلنا من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها؛ لأن سياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فيختلف معه معنى الكلمة، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الطاعن.
3) وجه الإعجاز:
لم يتمكن الإنسان من معرفة حقيقة أن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض إلا بعد أن امتلك من الوسائل العلمية ما تمكن به من معرفة ما جرى وما يجري في أعماق النجوم البعيدة لتكوين عنصر الحديد، وبعد أن تمكن من تحويل بعض العناصر الخفيفة إلى عناصر ثقيلة وحساب ما يحتاج إليه ذلك من طاقة عالية، وعجزه عن تكوين مادة الحديد من مواد أخف منه؛ إذ يتطلب ذلك طاقة تساوي أربعة أضعاف طاقة المجموعة الشمسية، كما أن استخراج البشر للحديد من مناجمه في باطن الأرض جعلهم لا يتوقعون أن يكون الحديد قد أنزل من السماء إلى الأرض، وحملهم على الاعتقاد بأنه خلق مع سائر العناصر الأرضية؛ لذلك خلت العلوم التجريبية من أية إشارة إلى هذه الحقيقة قبل الربع الأخير من القرن العشرين، وكذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويل اللفظ القرآني )وأنزلنا الحديد((الحديد:25)إلى معنى لا يحتمله اللفظ، بما فيهم مفسرون معاصرون عاشوا في القرن العشرين، فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي لم تعرفها البشرية إلا في الربع الأخير من القرن العشرين؟!
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص123: 127.
[2]. المرجع السابق، ص121، 122.
[3]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[4]. من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. عاطف المليجي، القاهرة، ط4، 2004م، ص94، 95.
[5]. هذا خلق الله: انفجار رائع للنجوم، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[6]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.
[7]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.com.
[8]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.
[9]. شبهة حول قوله تعالى: )وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ((الزمر:6)، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[10]. شبهة إنكار نزول الحديد من السماء في القرآن، وليد المسلم، مقال منشور بموقع: www.almeshkat.net.