نفي الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)
وجه إبطال الشبهة:
إن المقصود برزق السماء في قوله تعالى: )وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) ((الذاريات)لا يقتصر على المطر فحسب؛ فالرزق -كما يقول أهل اللغة- يُطلق على كل ما يُنتفع به من النعم، وهو بهذا المعنى يشمل ما أكَّدته الدراسات الكونية الحديثة من أن جميع ما يحتاجه الإنسان والحيوان والنبات من الماء، ومن مختلف صور المادة والطاقة، إنما ينزل إلى الأرض من السماء بتقدير من الله عز وجل، كما لا يوجد أي تعارض بين تقدير الله الرزق في السماوات العلا، وجعل أسبابه في السماء الدنيا (الغلاف الجوي – وسماء الكواكب والنجوم والمجرات).
التفصيل:
1)الحقائق العلمية:
لقد اكتشف العلماء -حديثًا- أنواعًا عدَّة من رزق السماء لا تقوم الحياة على الأرض إلا بها، وذلك من خلال فهم مدلول السماء بالغلاف الغازي للأرض، والسماء الدنيا (سماء الكواكب والنجوم والمجرات)، على النحو الآتي:
- رزق السماء في إطار فهم مدلول السماء بالغلاف الغازي للأرض:
أكدت دراسة الغلاف الغازي للأرض أو “سماء الأرض” أنه يحتوي على عديد من أنواع الرزق؛ كالمطر الذي نرتوي به، ونروي زروعنا منه، وغاز الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان وجميع الحيوانات، وثاني أكسيد الكربون الذي تتنفسه النباتات، وغير ذلك من الغازات النافعة مثل غاز النيتروجين الذي تمتصُّه بعض البكتيريا لإخصاب التربة، وهنا ينحصر مفهوم السماء بالنطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض، والمعروف باسم “نطاق التغيرات الجوية” (The Troposphere)، ويمتد من سطح البحر إلى ارتفاع 16 كم فوق مستوى سطح البحر عند خط الاستواء، ويتناقص سمكه إلى نحو 10 كم فوق مستوى سطح البحر عند قطبي الأرض، وإلى أقل من ذلك (7- 8 كم) فوق خطوط العرض الوسطى.
وعندما يتحرك الهواء من فوق خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنه يهبط فوق هذا المنحنى الوسطي، فتزداد سرعته ويميل إلى اتجاه الشرق، وذلك بتأثير دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، ويعرف حينئذٍ باسم “التيار النفاث” (The Jet stream) وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق مع الارتفاع باستمرار حتى تصل إلى 60 درجة مئوية تحت الصفر في قمته؛ وذلك نظرًا للابتعاد عن سطح الأرض، الذي يمتص 47% من أشعة الشمس فترتفع درجة حرارته، ويعيد إشعاع تلك الحرارة على هيئة أشعة تحت حمراء إلى الغلاف الغازي للأرض بمجرد غياب الشمس؛ ومن هنا تنخفض درجة حرارة نطاق الطقس مع الارتفاع للبعد عن مصدر الدفء بالنسبة له، ألا وهو سطح الأرض.
ولولا هذا الانخفاض في درجات حرارة نطاق الطقس لفقدت الأرض كل مائها بمجرد اندفاع أبخرته من فوهات البراكين في مرحلة دحو الأرض، ولاستحالت الحياة على سطحها. ويغطي الماء في زماننا الحالي أكثر قليلًا من 71% من المساحة الكلية للكرة الأرضية، وتقدَّر كميته بنحو 1,36 مليار كم3، منها 97,2% في المحيطات والبحار، و2,15% على هيئة جليد فوق القطبين وحولهما وفوق قمم الجبال، 0,65% في المجاري المائية المختلفة من الأنهار والجداول وغيرها، وفي كل من البحيرات العذبة وخزانات الماء تحت سطح الأرض التي تشكل أغلب هذه النسبة.
وهذا الماء قد أخرجه الله عز وجل أصلًا من داخل الأرض، ولا يزال يخرجه لنا عبر فوهات البراكين على هيئة بخار الماء الذي تكثَّف -ولا يزال يتكثَّف- في الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية، التي تتميز ببرودتها الشديدة، ثم يعاود دورته بين السماء والأرض، فيجري أنهارًا متدفقة تفيض إلى منخفضات الأرض فتشكِّلها بحارًا ومحيطات، وبحيرات ومستنقعات.
صورة للثورات البركانية، وهي مصدر من مصادر رزق السماء، وأهمه بخار الماء
هذا؛ وتظل دورة الماء بين الأرض والسماء آية من آيات الله في إبداع الخلق حافظة ماء الأرض من التعفُّن، ومن الضياع إلى طبقات الجو العليا، وعاملة على تفتيت الصخور، وتسوية سطح الأرض وتمهيده، وتكوين مختلف أنواع التربة، وتركيز عديد من المعادن والصخور الاقتصادية، وخزن الماء تحت سطح الأرض، فماء الأرض يتبخر منه سنويًّا 380,000 كم3، ينتج أغلبها 320,000 كم3 من بخر أسطح البحار والمحيطات، والباقي 60,000 كم3 من اليابسة، وهذا البخار تدفعه الرياح إلى الطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، إذ يتكثف في السحب ويعود إلى الأرض بإذن الله مطرًا طهورًا، أو ثلجًا، أو بردًا، وبدرجة أقل على هيئة ندى في الأجزاء القريبة من سطح الأرض.
ويجري ماء المطر على سطح الأرض لينتهي إلى البحار والمحيطات، كما يترشَّح جزء منه خلال طبقات الأرض ليكون مخزونًا مائيًّا تحت الأرض، له عدد من الحركات الدائبة فيشارك عن طريقها في تغذية بعض الأنهار والبحيرات والمستنقعات، وقد يعاود الخروج إلى سطح الأرض على هيئة ينابيع، أو بواسطة حفر الآبار أو ينتهي به المطاف إلى البحار والمحيطات.
رسم تخطيطي لدورة الماء حول الأرض وهو من رزق السماء
وماء المطر يسقط على البحار والمحيطات بمعدل سنوي يُقدَّر بنحو 284,000كم3، وعلى اليابسة بمعدل سنوي يقدَّر بنحو 96,000كم3، والرقم الأخير يزيد بمعدل 36,000كم3 عن معدل البخر من اليابسة، وهو الفرق نفسه بين معدل البخر من أسطح البحار والمحيطات، ومعدل سقوط الأمطار عليها، وتتم دورة الماء حول الأرض بصورة معجزة في كمالها ودقتها، لأنه لولاها لفسد كل ماء الأرض أو تعرض للضياع، وترك كوكبنا الأرضي قاحلًا، أجرد بلا حياة، تحرقه حرارة الشمس بالنهار، وتجمِّده برودة الليل كلما غابت الشمس([1]).
- أهمية الماء للكائنات الحية:
الماء ضرورة من ضرورات الحياة، فبدونه لا يمكن لإنسان ولا حيوان ولا نبات أن يعيش، فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان البالغ 71%، وأن نسبتها في الجنين ذي الأشهر المحدودة قد تصل إلى 97%، بينما يكوِّن الماء أكثر من 80% من تركيب دم الإنسان، وأكثر من 90% من مكونات عديد من الحيوانات والنباتات.
- ماذا يحدث لو نقصت نسبة الماء في الجسم:
نحن نعرف الآن أنه لا يمكن أبدًا أن تقوم الحياة على وجه الأرض بغير ماء، فبعض الكائنات الحية يمكنها الاستغناء عن أكسجين الهواء، ولكن لا يمكن لكائنٍ حيٍّ الاستغناء كليةً عن الماء، فإذا نقص عطشت الخلايا واضطرب عملها، وتيبست الأنسجة، وتلاصقتالمفاصل وتجلَّط الدم وتخثَّر وأوشك الكائن الحي على الهلاك؛ ولذلك فإن أعراض نقصالماء في الجسم خطيرة للغاية، فعلى سبيل المثال: إذا فقد الإنسان 1% من ماء جسده أحس بالظمأ، وإذا ارتفعت النسبة إلى 5% جفَّ حلقه ولسانه، وصعب نطقه، وتغضَّن جلده، وأصيب بانهيار تام، فإذا زادت النسبة المفقودة من الماء على 10% أشرف الإنسان على الهلاك والموت([2])؛ ومن ثم فإن الماء -هذا السائل العجيب- يعدُّ من أعظم صور رزق السماء؛ إذ بدونه لا يمكن للحياة الأرضية أن تكون.
- مكونات الهواء:
وكذلك الهواء بما فيه من: أكسجين، وثاني أكسيد الكربون، ونيتروجين، وبخار ماء، وغير ذلك من الغازات المهمة وهباءات الغبار – يعتبر من رزق السماء؛ لأن مكوناته كلها تعتبر من ضرورات الحياة على الأرض.
فبدون الهواء يتعذَّر تشتيت ضوء الشمس إلى نور النهار([3])؛ ومن ثم رؤية الإنسان للأشياء، وكذلك يستحيل سماع الأصوات التي لا تنتقل موجاتها في الفراغ.
وبدون الهواء -أيضًا- ما تنبت نبتة على وجه الأرض، والهواء الصالح لتكوين الغذاء هو ثاني أكسيد الكربون الذي تخرجه أجسامنا وأجسام كل الحيوانات عن طريق عملية الزفير، ويأخذ الناس والحيوانات غاز الأكسجين، فيدخل رئاتهم حيث يتحد الأكسجين بالأغذية الموجودة في الدم، مولِّدًا الحرارة والطاقة اللازمتين للأعمال الحيوية، ومتحولًا إلى غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يلفظه الجسم إلى الجو بعملية الزفير؛ وهكذا تتم دورة الهواء، ولو استمرت هذه العملية دون تدبير إلهي وعناية خاصة لتحوَّل كل أكسجين الجو إلى غاز ثاني أكسيد الكربون، ولنفد الأكسجين من الهواء، وحينئذٍ يموت جميع الناس والحيوانات.
غير أن التدبير الإلهي الحكيم جعل النباتات تحتاج إلى غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يلفظه الإنسان والحيوان، لتصنع منه غذاءها الضرورى لحياتها، ومن روائع نتائج هذه العملية النباتية أنها تطلق في الجو غاز الأكسجين النافع، إلى جانب أنها تنتج أيضًا رزقًا للإنسان من فواكه وخضروات يتغذَّى بها الإنسان والحيوان، ويصنع منها ثيابًا، كما يصنع من أخشابها مساكن وأثاثًا وغير ذلك([4]).
ويضاف إلى ما سبق أن الإنسان قد استطاع -مع تطور العلم والتكنولوجيا- أن يستخدم السماء من خلال بنائه للمكوكات الفضائية، وفي الاتصالات اللاسلكية عبر محطات أرضية وأقمار اصطناعية، كما أسهمت المحطات الفضائية والهواتف النقالة ومجالات أخرى مدنية وعسكرية للاتصال والمراقبة والرصد بقسط كبير في ذلك، حتى أصبح الفضاء مصدرًا تجاريًّا متميزًا، تتقوَّى به الدول والأمم وتهيمن به على الآخرين([5]).
- رزق السماء في إطار تفسير السماء بالسماء الدنيا:
إذا نظرنا إلى صور رزق السماء في إطار تفسير السماء بأنها السماء الدنيا؛ أي سماء الكواكب والنجوم والمجرات – نجد أن رزق السماء يتمثَّل في كل صور المادة والطاقة المتولدة في داخل النجوم (من مثل شمسنا)، التي تصل إلى الأرض بصور متعددة. فمن الثابت علميًّا أن النجوم قد تكوَّنت ابتداء من الدخان الكوني الذي نشأ عن انفجار الجرم الابتدائي للكون، وأنها لا تزال تتكوَّن أمام أنظار الفلكيين اليوم من دخان السدم، وفي داخل تلك الغيوم الكونية عبر مراحل من النجوم الابتدائية (Prostars) وذلك بواسطة عدد من الدوَّامات العاتية التي تُعرَف باسم “دوامات تركيز المادة”، التي تقوم بتكديس المادة وتكثيفها حتى تتجمع الظروف اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي، وانطلاق الطاقة، وانبثاق الضوء؛ فيتحول النجم الابتدائي إلى نجم عادي كشمسنا يُعرف باسم “نجم التسلسل الرئيسي”، وأغلب النجوم التي تتراءى لنا في صفحة السماء هي من هذا النوع؛ لأن النجم يقضي 90% من عمره في هذه المرحلة التي يعتبر فيها النجم فرنًا نوويًّا كونيًّا تتخلَّق فيه العناصر من نوى ذرات الإيدروجين بعملية الاندماج النووي، وتتميز مدة “نجم النسق الرئيسي” بتعادل قوة الجذب إلى مركز النجم مع قوة دفع مكونات النجم إلى الخارج لتمدُّده بالحرارة الناتجة عن عملية الاندماج النووي وبالعزم الزاوي([6]) الناتج عن دورانه حول محوره، ويبقى النجم في هذا الطور حتى ينفد وقوده من غازي الإيدروجين والهيليوم، فيبدأ بالدخول في مراحل الشيخوخة بالانكدار ثم الخنوس والطمس إذا سمحت كتلته الابتدائية بذلك، حتى تنتهي حياة النجم بالانفجار وعودة مادته إلى دخان السماء؛ إما مباشرة عن طريق انفجار العماليق الحمر أو العماليق العظام أو المستعرات العظيمة بمختلف نماذجها، أو بطرق غير مباشرة عبر مرحلة من مراحل وفاة النجوم الفائقة الكتل من مثل النجوم النيوترونية والنجوم الخانسة الكانسة (أو ما يعرف باسم “الثقوب السوداء”)، التي يعتقد العلماء أنها تفقد مادتها بالتدريج إلى دخان السماء عبر مرحلة أشباه النجوم.
وباتحاد نوى ذرات الإيدروجين في قلب النجم العادي تتكون نوى ذرات الهيليوم، وباتحاد نوى ذرات الهيليوم تتكون نوى ذرات البريليوم، وهكذا يتسلسل تخلق العناصر المختلفة في داخل النجوم خاصة النجوم العملاقة أو في أثناء انفجارها، ويؤدي انفجار النجوم إلى عودة ما تكوَّن بداخلها من عناصر إلى دخان السماء لكي يكون مادة لتخلُّق نجم جديد، أو ليصل إلى بعض أجرام السماء في صورة من صور رزق السماء.
شكل يوضح تخلق العناصر المختلفة في داخل النجوم في أثناء مراحل تطورها المختلفة، وهي من رزق السماء
ومن المشاهد أن عملية الاندماج النووي في داخل النجوم فائقة الكتلة من مثل العماليق والمستعرات العظام تستمر حتى يتحول قلب النجم بالكامل إلى حديد، فتستهلك طاقة النجم؛ لأن ذرة الحديد هي أكثر الذرات تماسكًا، وفي انفجار المستعرات العظام تصطدم نيوترونات دخان السماء بنوى الحديد المتطايرة من عملية الانفجار لتبني نوى ذرات أعلى كثافة مثل الفضة والذهب واليورانيوم وغيرها، كما أن إهاب النجم المتفجر من المواد الأقل كثافة ينتقل أيضًا إلى دخان السماء بانفجار واشتعال شديدين وانبعاث موجات راديوية قوية.
وتتكون المادة فيما بين النجوم من الغازات والغبار (أي الدخان) المكوَّن من جزيئات وذرات وأيونات، ومن اللبنات الأساسية للمادة ويغلب على تركيبه الإيدروجين، والهيليوم والأكسجين، والنيتروجين، والكربون، والنيون والصوديوم والبوتاسيوم وبعض العناصر الأثقل. وتقدَّر المادة بين نجوم مجرتنا ببضعة بلايين المرات قدر كتلة الشمس، وتصل كافة العناصر المتخلِّقة في الكون إلى الأرض عن طريق تساقط الشهب والنيازك، ويصل إلى الأرض يوميًّا بين الألف وعشرة الآلاف طن من مادة الشهب والنيازك، والغبار الكوني لتجدد إثراء الأرض بالعناصر المختلفة التي تمثل صورة من صور رزق السماء، الذي يُوزَّع على الأرض بتقدير من العزيز الحكيم، ولم يكن لأحد من الخلق علم بها من قبل.
رسم توضيحي للنيازك التي تصل إلى الأرض بكميات كبيرة بمعدل مليون إلى 20 مليون طن
كما يُقدَّر ناتج الطاقة الكلية للشمس بنحو 10 33× 3,86 سعر/ ثانية، ويعتبر فيض الطاقة الشمسية الواصلة إلى الأرض أكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من ألمع النجوم بعشرة مليارات ضعف، وأكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من القمر وهو في طور البدر مليون مرة، وطاقة الشمس من رزق السماء، فبدونها تستحيل الحياة على الأرض([7]).
صورة لأشعة الشمس، وهي من مصادر رزق السماء
2) التطابق بين ما توصَّل إليه العلم الحديث وما أشارت إليه الآية الكريمة:
يقول عز وجل في محكم آياته: )وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) ((الذاريات)، ويقول في موضع آخر:)وينزل لكم من السماء رزقا((غافر: ١٣)، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «… وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها…»([8])، ولم يحدِّد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف الرزق الذي في السماء، والذي ينزل إلى الأرض بقدرة الله تعالى: مطرًا أو طاقة أو شعاعًا أو ضوءًا؛ وذلك لأن رزق السماء الذي ينزل إلى الأرض أكبر كثيرًا مما كان الناس يعتقدون من قبل، وأعظم مما كانوا يعرفون، فلم يكن الناس يعرفون من رزق السماء غير المطر، وقد استطاع الإنسان في العصر الحديث عن طريق دراسة الغلاف الجوي وغزو الفضاء أن يعرف كثيرًا من صور هذا الرزق الذي تمد به السماء الأرض، بالإضافة إلى المطر، مثل: الهواء والطاقة الشمسية وكل صور المادة والطاقة المتولدة في داخل النجوم، وكافة العناصر المتخلقة في الكون، التي تصل إلى الأرض عن طريق الشهب والنيازك، هذا بخلاف اتخاذ الإنسان الفضاء مصدرًا تجاريًّا متميزًا عن طريق الاتصالات اللاسلكية والمحطات الفضائية والهواتف النقالة، وغير ذلك كثير مما سوف يكشفه الإنسان في المستقبل.
- رزق السماء لا يقتصر على المطر فحسب:
أما زعم الطاعن أن رزق السماء في الآية لا يتجاوز معنى المطر، ويستدل على زعمه هذا بأقوال المفسرين للآية الكريمة، فنحن نرد زعمه هذا بتوضيح معنى الرزق في اللغة، وما فهمه المفسرون من الآية الكريمة.
- مدلول الرزق في اللغة:
الرِّزْقُ في اللغة: ما ينتفع به، والجمع الأرزاق، والرزق: العطاء، وهو مصدر([9]).
والرزق أيضًا هو: العطاء الجاري دنيويًّا كان أم أخرويًّا، وهو كذلك: النصيب المقسوم للإنسان فيصل إلى يده سواء كان مما يصل إلى الجوف ويتغذى به، أو يكتسى ويتزيَّن به، أو يُتجمَّل به مثل الخلق الحسن والعلم النافع، ويمكن أن يحمل الرزق على العموم، فيشمل كل ما يُؤكل ويُلبس ويُستعمل، وكل ما يخرج من الأرض أو ينزل من السماء([10]).
- فهم المفسرين لمعنى رزق السماء:
يقول الطبري: وقوله: )وفي السماء رزقكم( (الذاريات: 22) يقول تعالى ذكره: وفي السماء: المطر والثلج اللذان بهما تخرج الأرض رزقكم وقوتكم من الطعام والثمار وغير ذلك.
ذكر من قال ذلك: حدَّث جويبر عن الضحاك، في قوله: )وفي السماء رزقكم(قال: المطر. وعن جعفر عن سعيد في قوله: )وفي السماء رزقكم(قال: الثلج، وكل عين ذائبة من الثلج لا تنقص([11]).
ويقول ابن كثير )وفي السماء رزقكم(يعني: المطر([12]).
ويقول القرطبي: قوله تعالى: )وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) ((الذاريات) قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق([13]).
ويقول الألوسي: )وفي السماء رزقكم(أي: تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيِّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف، أو التجوُّز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبب([14]).
ويقول إسماعيل حقي: )وفي السماء رزقكم(أي: أسباب رزقكم على حذف المضاف، يعني به الشمس والقمر وسائر الكواكب واختلاف المطالع والمغارب التي يترتب عليه اختلاف الفصول التي هي مبادئ حصول الأرزاق([15]).
ومن خلال استعراضنا لمعنى كلمة “الرزق” في اللغة وأقوال المفسرين للآية الكريمة، يتضح لنا أن الرزق في اللغة لفظ عام يشمل كل ما ينتفع به الإنسان. ومن ثم؛ فرزق السماء في الآية الكريمة يشمل كل نافع ينزل من السماء إلى الأرض، فهوليس ماء المطر فحسب، ولكنه أكثر من ذلك، وقد يكون أهم من المطر، وأكثر ضرورة منه وأكثر نفعًا، فحرارة الشمس التي تتنزل من السماء إلى الأرض تسبب تبخر الماء من سطح البحار والمحيطات، وبذلك تتكون السحب، وتنزل الأمطار من السماء، ولولا أشعة الشمس ما تكوَّنت السحب وما نزلت الأمطار من السماء، فأساس الرزق هنا أشعة الشمس، ومن ثم سقوط المطر من السماء([16]). وعليه فلا مسوِّغ لقصر معنى الرزق على المطر كما يزعم الطاعن.
أما استدلاله بأن المفسرين القدامى قد ذهبوا في تفسير رزق السماء بأنه المطر دون ذكر سائر أنواع رزق السماء، فهو استدلال خاطئ؛ لأن القرآن الكريم -وهو رسالة الله الخاتمة إلى البشر كافة- نزل ليفهمه أهل كل عصر بما يتناسب مع معارفهم وعلومهم، فهو مَعِين متجدِّد لا ينضب إلى يوم الدين، والمفسرون -على الرغم من علمهم الواسع- بشر غير معصومين، ولم يزعم أحد منهم أنه قد أحاط بكل معاني القرآن الكريم، فهم قد بلغوا جهدهم في التفسير، وفسَّروا آيات القرآن حسب ما أدركوا من معارف وعلوم عصرهم؛ ولهذا فسروا رزق السماء بالمطر، ولم يذكروا أنواعًا أخرى من رزق السماء؛ لأنهم لم يكونوا يدركون من أبعاد رزق السماء غير المطر، بينما وجدنا غيرهم من المفسرين المتأخرين قد ذكروا أنواعًا أخرى لرزق السماء غير المطر كالرزق القادم من الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وقد سبق أن ألمحنا إلى قول الألوسي والشيخ إسماعيل حقي في ذلك؛ وعليه فلا يجوز أن نقصر تفسير آيات القرآن الكريم على أقوال أحد من المفسرين؛ لأن في هذا تجميدًا للنص القرآني، وحجرًا على معانيه التي لا تنتهي.
- لفظة السماء في الآية الكريمة لا تقتصر على السماوات العلا:
أما ما زعمه الطاعن من أن لفظة “السماء” في الآية الكريمة: )وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) ((الذاريات) تقتصر على السماوات العلا؛ حيث قدَّر الله سبحانه وتعالى أرزاق العباد في اللوح المحفوظ – فإننا نتفق معه في أن الله عز وجل قد قدَّر أرزاق العباد جميعًا قبل خلقهم، ويوزِّعها بمشيئته بقَدَر معلوم، تصديقًا لقوله سبحانه وتعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ((فصلت)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد…»([17]).
ونحن لا نختلف مع الطاعن في شيء من هذا، ولكن الذي لا يمكن أن نقبله أبدًا هو قصر معنى السماء في الآية الكريمة على السماوات العلا فحسب، وذلك لعدم وجود دليل في لغة العرب ولا في لغة القرآن الكريم وسياق الآيات على هذا القصر، كما لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين تقدير الله أرزاق العباد في السماوات العلا، وجعل أسباب هذه الأرزاق في السماء الدنيا، فالسماء في اللغة كما يقول الخليل بن أحمد في العين:
سما الشيء يَسْمُو سُموًّا؛ أي: ارتفع. والسماء: سقف كل شيء وكل بيت. والسماوات السبع: أطباق الأرضين. والجميع: السماءات، والسماوات([18]).
ونقل الأزهري في تهذيب اللغة عن الزجاج قوله: السماء في اللغة: يقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء، ومن هذا قيل للسحاب: السماء؛ لأنها عالية([19]).
وفي لسان العرب: “والسماء كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء”([20]).
فها هي لغة العرب تطلق لفظ السماء على كل ما علا حتى سقف البيت، فبأي وجه قصرها الطاعن على السماوات العلا؟ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى؛ فإننا لو تأمَّلنا لغة القرآن الكريم لوجدنا أن وصف السماوات العلا يأتي دائمًا بصيغة “السماوات”، وليس “السماء” فلقد ذكرت كلمة “السماوات” في القرآن الكريم في مئة وتسعين آية، تتحدَّث عن خلق السماوات والأرض، وما بها من علم وخلق وأمر، وعما فيها من سجود وتسبيح لله عز وجل ، ومما يؤكد أن “السماء” و”السماوات” كلمتان منفصلتان ورودهما معًا في قوله سبحانه وتعالى: )الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم((إبراهيم: ٣٢).
نلاحظ من الآية أن “السماوات والسماء” ذُكرتا معًا في آية واحدة، ولو كانتا شيئًا واحدًا ما ذكرتا في كلمتين منفصلتين([21])، فالسماوات إذًا غير السماء، فالسماوات تطلق على السماء الدنيا والسماوات العلا معًا، أما السماء فقد تعني سماء الغلاف الجوي والسحب التي ينزل منها المطر، وكذلك (السماء الدنيا سماء الكواكب والنجوم والمجرات) )إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6)((الصافات).
وعليه فلو كان الرزق في الآية مقتصرًا على رزق السماوات العلا، فلماذا جاء التعبير في الآية “رزق السماء” ولم يأت “رزق السماوات”؟
3) وجه الإعجاز:
لم يحدِّد القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)((الذاريات) نوع الرزق الذي ينزل من السماء بأمر الله تعالى؛ وذلك لأن الرزق الذي ينزل من السماء إلى الأرض أكبر كثيرًا مما كان الناس يعرفون، فلم يصدم القرآن فكر الناس قديمًا. وعدم تحديد نوع هذا الرزق يشير إلى تعدُّده، وهذا ما أدركه العلماء حديثًا في عصور العلم عندما اكتشفوا طبقات الغلاف الجوي والغازات التي يتكون منها الهواء والطاقة الشمسية في ضوء الشمس، وأهميتها في تكوُّن الغذاء والثمار، وغير ذلك من العناصر وصور الطاقة التي تأتي من النجوم إلى الأرض، كل هذا الذي لم يدرك الإنسان أبعاده إلا في العصر الحديث قد أشار القرآن إليه منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، مما يشهد بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام رب البشر للبشر ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
(*) نقض النظريات الكونية، محمد بن عبد الله الإمام،دار الأثار، صنعاء، ط1، 1429هـ/ 2008م.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص377- 380.
[2]. العلاج بالماء قديمًا وحديثًا، ماهر حسن محمود، دار الندى، مصر، 2006م، ص32.
[3]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص382.
[4]. نظرات جديدة في القرآن المعجز، محمد عادل القلقيلي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1997م، ص258، 259. وانظر: توحيد الخالق، عبد المجيد الزنداني، دار السلام، القاهرة، ط5، 1427هـ/ 2006م، ص34.
[5]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، دمشق، ط3، 1429هـ/ 2008م، ص49.
[6]. العزم الزاوي (angular momentum): مقياس ثابت لحركة الأجسام الفضائية.
[7]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص382: 385.
[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضى الله عنه، رقم (10266). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[9]. مختار الصحاح، لسان العرب، مادة: رزق.
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص371، 372 بتصرف.
[11]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420 هـ/ 2000م، ج22، ص420.
[12]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط.2، 1420هـ/1999م، ج4، ص235.
[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مؤسسة الرسالة، ط.1، 1427هـ/ 2006م، ج17، ص41.
[14]. روح المعاني، الألوسي، مرجع سابق، عند تفسيره هذه الآية.
[15]. روح البيان، إسماعيل حقي، دار الفكر، بيروت، عند تفسيره هذه الآية.
[16]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص86.
[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: القدر، (11/ 486)، رقم (6594). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه… (9/ 3759)، رقم (6599).
[18]. العين، مادة: سمو.
[19]. تهذيب اللغة، مادة: سمو.
[20]. لسان العرب، مادة: سمو.
[21]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ص87 بتصرف.