نفي تبشير الكتاب المقدس بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن عدم ذكر اسم “أحمد” في أحد عهدي الكتاب المقدس – على فرض صحته – لا ينفي تبشيرهما به – صلى الله عليه وسلم – مطلقا؛ ذاك أنه محمد ولم يدعه أحد بأحمد لا قبل النبوة ولا بعدها، فربما كان التبشير بما اشتهر به لا بما أطلق على طريقة التغليب من أحمد وغيره من الأسماء ليكون أدل وأوقع، فضلا عن أن قوله عز وجل: )اسمه أحمد(له معنيان – غير الظاهر – لا يمكن إغفالهما.
2) هناك العديد من الأدلة التي تستند إلى روايات تاريخية صحيحة ترويها كتب الحديث الصحيحة، وكتب السيرة، ودواوين التاريخ، ويؤيدها القرآن الكريم، كلها تؤكد البشارات الصريحة بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل.
3) لقد ثبت تحريف الكتاب المقدس، ليس بشهادة القرآن والمسلمين فحسب، بل بشهادة الكتاب المقدس ذاته وعلماء اللاهوت أنفسهم، فلا عجب أن يمحو اليهود والنصارى اسمه – صلى الله عليه وسلم – من كتبهم.
4) على الرغم من كل ما أصيب به الكتاب المقدس من تحريف، وما مني به من تزييف إلا أنه لم يخل تماما من جملة المبشرات به صلى الله عليه وسلم، وهذا نفسه يدل – إلى جانب حقيقة التبشير نفسها – على أن ما وصل إلينا طرف مما حرف وكتم وحذف، وأنه لولا ما أصابه لكان لدينا الآن من المبشرات أضعاف ما بأيدينا!!
التفصيل:
أولا. على فرض صحة زعمهم في عدم ذكر اسم “أحمد” في أي من عهدي الكتاب المقدس فهذا لا يدل على عدم التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم:
يفصل الشيخ الطاهر ابن عاشور الكلام في معنى هذه الآية )ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( (الصف: ٦) فيقول: التبشير هو: الإخبار بحادث يسر، وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم؛ لأنه يلزمه السرور الحق، فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة.
ووجه إيثار هذا اللفظ: الإشارة إلى ما وقع في الإنجيل من وصف رسالة الرسول الموعود به بأنها “بشارة الملكوت”.
ولا يحمل قوله تعالى: )اسمه أحمد( على ما يتبادر من لفظ “اسم” من أنه: العلم المجهول للدلالة على ذات معينة؛ لتمييزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم؛ لأن هذا الحمل يمنع منه، وأنه ليس بمطابق للواقع؛ لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناس “أحمد” فلم يكن أحد يدعو النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – باسم “أحمد” لا قبل نبوته، ولا بعدها، ولا يعرف ذلك.
وأما ما جاء عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» [2] [3]. فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العلم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر بن العربي في العارضة والقبس.
فالذي نوقن به أن محمل قوله اسمه أحمد يجري على جميع ما يحمله ركنا هذه الجملة من المعاني. فأما لفظ “اسم” فأشهر استعماله في كلام العرب ثلاثة استعمالات:
- أن يكون بمعنى المسمى: قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمى، ونسب ثعلب إلى سيبويه أن الاسم غير المسمى؛ أي إذا أطلق لفظ “اسم” في الكلام فالمعني به: مسمى ذلك الاسم.
- أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير وأنشد ثعلب من الطويل:
لأعظمها قدرا وأكرمها أبـا
وأحسنها وجها وأعلنها سمى[4]
- أن يطلق على لفظ جعل دالا على ذات لتميز من كثير من أمثالها، وهذا هو العلم.
ونحن نجري على الأصل في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح؛ فنحمل الاسم في قوله: “اسمه أحمد” على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة – أي: مسماه “أحمد”، وذكره أحمد، وعلمه أحمد – ولنحمل لفظ “أحمد” على ما لا يأباه واحد من استعمالات “اسم” الثلاثة إذا قرن به وهو أن “أحمد” اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنيا به القوة فيما هو مشتق منه، أي: الحمد وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملا في قوة مفعولية الحمد، أي: حمد الناس إياه، وهذا مثل قولهم: “العود أحمد” – أي: محمود كثيرا، فالوصف بـ “أحمد” بالنسبة إلى المعنى الأول في “اسم” أن مسمى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود؛ فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخلقية والخلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والعرضية.
ويصح اعتبار “أحمد” تفضيلا حقيقيا في كلام عيسى – عليه السلام – أي مسماه أحمد مني، أي أفضل في رسالته وشريعته، وعبارات الإنجيل تشعر بهذا التفضيل؛ ففي إنجيل يوحنا: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه… إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلا. الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي. والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم”. (يوحنا 14: 16ـ 26)، أي في جملة ما يعلمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم، وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعته المعبر عنها بقول الإنجيل: “ليمكث معكم إلى الأبد”، وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله: “يعلمكم كل شيء”.
والوصف بـ “أحمد” على المعنى الثاني في الاسم، أن سمعته وذكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشد ذكر محمود وسمعة محمودة.
ووصف “أحمد” بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أن اسمه العلم يكون بمعنى: أحمد؛ فإن لفظ “محمد” اسم مفعول من “حمد”، الدال على كثرة حمد الحامدين إياه، كما قالوا: فلان ممدح؛ إذا تكرر مدحه من مادحين كثيرين.
فاسم “محمد” يفيد معنى: المحمود حمدا كثيرا، ورمز إليه بأحمد.
وهذه الكلمة الجامعة التي أوحى الله بها إلى عيسى – عليه السلام – أراد الله بها أن تكون شعارا لجماع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم، صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالا، بحسب ما تسمح اللغة بجمعه من معان، ووكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة[5].
ثانيا. بالنظر لمجمل الروايات التاريخية الثابتة ولعموم آيات القرآن المؤيدة لفحواها يتأكد لدينا ما كان من بشارات صريحة بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل:
وأول ما يطالعنا في هذا الصدد قوله عز وجل: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)( (الأعراف).
تؤكد هذه الآية الكريمة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – مكتوب عندهم في كتبهم كما أن صفات النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ثابتة في كتب الأنبياء السابقين الذين بشروا أممهم به، ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا تزال هذه الصفات مدونة في كتبهم، يعرفها علماؤهم إلا أنهم يتواصون بكتمانها، أو يؤولونها تأويلات فاسدة.
يقول الإمام الرازي في “مفاتح الغيب” عند تفسير الآية: “وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل؛ لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأن الإصرار على الكذب، والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول قوله؛ فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت، كان مذكورا في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل”.
ومنه قوله عز وجل: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف).
بين الله – عز وجل – في هذه الآية حقيقة دعوة عيسى عليه السلام، وهي أنه جاء مصدقا لما في التوراة، ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه “أحمد”، فهذه بشارة صريحة من نبي الله عيسى – عليه السلام – سواء وجدت هذه البشارة في الأناجيل، أم طمست من قبل الحاقدين الحاسدين.
يقول الأستاذ سيد قطب في “الظلال” عند تفسير هذه الآية: “هذه الآية تصور حلقات الرسالة المترابطة يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها واحدة في اتجاهها ممتدة من السماء إلى الأرض حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة” [6].
ومنه قوله عز وجل: )الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53)( (القصص).
الآية الكريمة تصف حال طائفة من أهل الكتاب – النصارى – استجابت للدعوة الجديدة؛ فآمنت بالنبي الأمي إيمانا عميقا، جعل الدموع تجري من العيون؛ من شدة تأثرهم بالحق الذي سمعوه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين الآية الكريمة أن سر إيمانهم برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به هو معرفتهم السابقة من خلال الكتب المقدسة عندهم بأن نبيا من العرب سيخرج آخر الزمان: )إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53)(. وهكذا كانت المعرفة السابقة سببا في الإيمان بهذا الدين الجديد[7].
وبالجملة نقول إن هذه الآيات وغيرها أصدق دليل على ما جاء في كتب النصارى من البشارات العظيمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المسلم به أن القرآن الكريم بما نص عليه من آيات في هذا الصدد محفوظة مستوثق من صدقها بمقتضى تعهد الله بحفظه؛ في قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
والمتأمل في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكتب الحديث، يجد العديد من الأدلة على تواطؤ اليهود والنصارى على محو اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – من كتبهم، وكذلك إخفاء البشارات الصريحة بمبعثه – صلى الله عليه وسلم – والتي اعتمد عليها هؤلاء اليهود والنصارى في التبشير به – صلى الله عليه وسلم – وتتبع أخباره وعلاماته، والهجرة إلى بلاده التي سيظهر فيها، وهي المدينة المنورة، وتركهم بلاد الشام بخيراتها إلى بلاد شبه الجزيرة العربية المجدبة، كل هذا يدل بما لا يدع مجالا للشك على كثرة المبشرات بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ووضوحها.
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – اليهود والنصارى مشافهة أنه مذكور عندهم وأنهم وعدوا به وأن الأنبياء بشرت به، واحتج عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمر من البشارات به غير موجود لكذبوه، ونفروا من اتباعه، وشهدوا على دعوته بالبطلان، وهذا ما لم يكن.
وهناك العديد من الدلائل في السيرة النبوية تشير إلى وجود هذه المبشرات بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل، والتي حرفها اليهود والنصارى بعد ذلك وتواصوا بكتمانها، نذكر منها ما يأتي:
- روى الواقدي عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سأل أبا مالك ثعلبة بن هلال، وكان من أحبار اليهود، فقال: أخبرني عن صفات النبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة، فقال: إن صفته في توراة بني هارون التي لم تغير ولم تبدل، هي: “أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه، في عينيه حمرة وبين كتفيه ختم النبوة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجتزئ بالبلغة[8]، يركب الحمار ويمشي في الأسواق، سيفه على عاتقه لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، يولد بمكة وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحماد ويحمد الله شدة ورخاء، سلطانه بالشام وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا ثم يدال عليهم[9]فيحصدهم حصدا، تكون الواقعات بيثرب منها عليه ومنه عليها ثم له العاقبة، معه قوم هم أسرع إلى الموت من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم وقربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوه مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه ثم يخرج ويحكم لا شرط معه ولا حرس، الله يحرسه”.
- عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التوراة فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا[10] للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب[11] في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء[12]، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا»[13] [14].
ورواه ابن جرير، وزاد: قال عطاء: فلقيت كعبا، فسألته عن ذلك، فما اختلفنا في حرف.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص قد وجد يوم اليرموك زاملتين[15] من كتب أهل الكتاب، وكان يحدث عنهما كثيرا. وأما كعب الأحبار، فقد كان من كبار علماء اليهود وأحبارهم، ثم شرح الله صدره للإسلام، وكان بعد إسلامه يحدث بصفات النبي – صلى الله عليه وسلم – الموجودة في التوراة.
وقد روى ابن سعد في “الطبقات” عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التوراة؟ فقال: نجده “محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره إلى طابة[16]، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر”.
وجاء عن أبي صالح قال: قال كعب: «نجد مكتوبا محمد رسول الله لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمادون يكبرون الله – عز وجل – على كل نجد ويحمدونه في كل منزلة، ويأتزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام» [17].
وجاء عن رجل من الأعراب أنه قال: «جلبت جلوبة[18] إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه. قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم، حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي”؟ فقال برأسه هكذا، أي: لا، فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وإنك رسول الله. فقال: “أقيموا اليهودي عن أخيكم”، ثم ولـي كفنه وحنطه وصلى عليه»[19].
وعن عوف بن مالك الأشجعي – رضي الله عنه – قال: «انطلق النبي – صلى الله عليه وسلم – يوما وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه”، قال: فأسكتوا، ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه منهم أحد، فقال: “أبيتم؟! فوالله، إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم”.
ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج، نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد! فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذا آمن فكذبتموه وقلتم، فلن يقبل قولكم”.
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا، وعبد الله بن سلام وأنزل الله تعالى فيه: )قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)( (الأحقاف)» [20].
ويحدثنا ابن سعد في طبقاته عن بعض الأنصار أن يهود بني قريظة كانوا يدرسون ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كتبهم، ويعلمونه الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلينا، فلما ظهر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حسدوا وبغوا وقالوا: ليس به.
وكان المشركون يرون أن أهل الكتاب أعلم بهذا الشأن فكانوا يسألونهم، وكان هؤلاء يخبرون بما عندهم، روى ابن سعد عن ابن عباس، قال: بعثت قريش النضر بن الحارث بن علقمة، وعقبة بن أبي معيط وغيرهما إلى يهود يثرب، وقالوا لهم: سلوهم عن محمد، فقدموا المدينة فقالوا: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم فقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، قالوا: صفوا لنا صفته، فوصفوه لهم، قالوا: فمن تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا، فضحك حبر منهم، قال: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة[21].
وقال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل مبعثه لما تقارب زمانه، أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم منه، ثم بين ابن إسحاق عن جماعة من الأنصار ما كان يتحدث به يهود يثرب عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسبب بغيهم وحسدهم وإنكارهم ما كانوا يعلنونه ويتدارسونه من ذكره، فقال: “وحدثنا عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب وعندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع منهم ذلك، فلما بعث الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أجبنا حين دعانا إلى الله تعالى وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة: )ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)( (البقرة) ” [22].
إن ما ذكرناه آنفا من أدلة على معرفة أهل الكتاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال كتبهم كان يتعلق باليهود، وعلمائها، أما ما يتعلق بالنصارى فقصة إسلام سلمان الفارسي خير دليل على معرفة رهبان النصارى بصفات النبي – صلى الله عليه وسلم – وبلاده ووقت مبعثه، فقد قال الراهب النصراني الذي كان يلازمه سلمان الفارسي قبل موته: «أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجرا بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل»[23] [24].
ولا يمكن لمثل هذا الراهب النصراني أن يقول ما قاله إلا من خلال ما علمه بما في الإنجيل من بشارات بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وصفاته.
ودليل آخر على معرفة النصارى للنبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال الإنجيل، ما قاله النجاشي للمهاجرين المسلمين بعد أن أخبروه قولهم في عيسى ابن مريم، كما يروي عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «فرفع عودا من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه» [25].
ومثل ما قاله النجاشي لجعفر بن أبي طالب، قاله هرقل ملك الروم لأبي سفيان وأصحابه حين سأله عن أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له: «فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت[26] لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه» [27].
هذه بعض من الدلائل على كثرة البشارات بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل واضحة لم تصل إليها يد التحريف كما هي عليه الآن، ونستطيع أن نستخلص من هذا كما يقول ابن القيم: أن الأخبار والبشارة بنبوته – صلى الله عليه وسلم – في الكتب المتقدمة عرفت من عدة طرق:
الأولى: ما ذكرناه آنفا من أخبار، وهو قليل من كثير وغيض من فيض.
الثانية: إخباره – صلى الله عليه وسلم – لهم أنه مذكور عندهم، وأنهم وعدوا به وأن الأنبياء بشرت به، واحتجاجه عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمر لا وجود له ألبتة لكان مغريا لهم بتكذيبه منفرا لاتباعه محتجا على دعواه بما يشهد ببطلانها.
الثالثة: أن هاتين الأمتين معترفتين بأن الكتب القديمة بشرت بنبي عظيم الشأن يخرج في آخر الزمان نعته كيت وكيت، وهذا مما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى؛ فأما المسلمون فلما جاءهم آمنوا به وصدقوه، وعرفوا أنه الحق من ربهم. وأما اليهود فعلماؤهم عرفوه وتيقنوا أنه محمد بن عبد الله، فمنهم من آمن به، ومنهم من جحد نبوته وقالوا لأتباعهم: إنه لم يخرج بعد. وأما النصارى فوضعوا بشارات التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح، ولا ريب أن بعضها صريح فيها، وبعضها ممتنع حمله عليه، وبعضها محتمل، وأما بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرفوه أو سكتوا عنه وقالوا: لا ندري من المراد به.
الرابعة: اعتراف من أسلم منهم بذلك، وأنه صريح في كتبهم، وعن المسلمين الصادقين منهم تلقى المسلمون هذه البشارات وتيقنوا صدقها وصحتها بشهادة المسلمين منهم بها مع تباين أعصارهم وأمصارهم وكثرتهم واتفاقهم على لفظها، وهذا يفيد القطع بصحتها، ولو لم يقر بها أهل الكتاب. فكيف وهم مقرون بها لا يجحدونها وإنما يغالطون في تأويلها والمراد بها؟!
وكل واحد من هذه الطرق الأربع كاف في العلم بصحة هذه البشارات، وقد سبق أن أشرنا إلى إقدامه – صلى الله عليه وسلم – على إخبار الصحابة وأعدائه بأنه مذكور في كتبهم بنعته وصفته، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وتكراره ذلك عليهم مرة بعد مرة في كل مجمع وتعريفهم بذلك، وتوبيخهم والنداء عليهم به من أقوى الأدلة القطعية على وجوده من وجهين:
أحدهما: قيام الدليل القطعي على صدقه.
الثاني: دعوته لهم بذلك إلى تصديقه، ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي تكذيبه والتنفير منه.
وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، ولم يبدلوا شيئا منها فيسلكها بعض نظار المسلمين معهم من غير تعرض إلى التبديل والتحريف.
وطائفة أخرى تزعم أنهم بدلوا، وحرفوا كثيرا من ألفاظ الكتابين، مع أن الغرض الحامل لهم على ذلك دون الغرض الحامل لهم على تبديل البشارة برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكثير، وإن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلها وتبديلها، ففضحهم ما عجزوا عن كتمانه أو تبديله[28].
ومن ثم فلا يحق لأحد أن يشكك في اعتقاد المسلمين بتحريف التوراة والإنجيل، ومحو اسمه – صلى الله عليه وسلم – من هذه الكتب؛ لأن الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا، وقد تضمنتها كتب السنة والحديث، وكتب التاريخ، وصدق كل ذلك القرآن الكريم.
ثالثا. تحريف الكتاب المقدس ثابت ليس بالقرآن فحسب، بل بشهادة الكتاب المقدس ذاته وعلماء اللاهوت أنفسهم:
يحسن بنا في البداية أن نشير إلى الحقيقة الجلية، التي لا يكاد ينكرها أحد من علماء أهل الكتاب – اليهود والنصارى – تلك الحقيقة هي ثبوت تحريف الكتاب المقدس بعهديه؛ القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل).
وقد سجل القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات عديدة تدل على وجود هذا التحريف، يقول عز وجل: )أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75)( (البقرة). ثم يقول عز وجل: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة).
وواضح هنا أن التحريف المذكور في الآيات كان على الحقيقة، وليس تحريفا للمعاني فقط، مما يدل على أن تحريف الكلم المذكور كان واقعا ملموسا ومعايشا، يقول عز وجل: )وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78)( (آل عمران) [29].
وكما نص القرآن الكريم على تحريف التوراة والإنجيل، فقد نص كذلك على نصوص مفقودة من التوراة والإنجيل؛ يقول تعالى في القرآن عن التوراة الحقيقية وكذلك الإنجيل الحقيقي: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( (الأعراف). إن تسجيل القرآن هذا في مقابل فقداننا هذه الإشارة إليه – صلى الله عليه وسلم – لدليل على ما أصابهما من تحريف.
فلو كانت التوراة أو الإنجيل بين أيدينا صحيحين غير محرفين؛ لوجدنا هذا الذي نص القرآن على ذكره فيهما، وهذا دليل على أن النسخ الموجودة محرفة لا محالة، ودليل أيضا على أن أهل الكتاب قد أخفوا التوراة الحقيقية، بما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولمزيد من الشفافية ولكي لا تبقى لمحتج حجة فإننا نقدم لهم الأدلة التي تثبت هذا التحريف وذاك الإخفاء لبعض النصوص، ومنها البشارة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في كتبهم تلك؛ وها هو ذا الكتاب المقدس ينص على ذلك التحريف:
ففي سفر إرميا نجد غضب الرب على الكهنة، ومن يتنبئون ويقولون للشعب الكذب بدلا من كلام الرب الإله: “لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعا، بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب: لذلك يكون طريقهم لهم كمزالق في ظلام دامس، فيطردون ويسقطون فيها، لأني أجلب عليهم شرا سنة عقابهم، يقول الرب: وقد رأيت من أنبياء السامرة حماقة. تنبئوا بالبعل وأضلوا شعبي إسرائيل، وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يقشعر منه، يفسقون ويسلكون بالكذب، ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجعوا الواحد عن شره، صاروا لي كلهم كسدوم، وسكانها كعمورة، لذلك هكذا قال رب الجنود عن الأنبياء: هأنذا أطعمهم أفسنتينا وأسقيهم ماء العلقم؛ لأنه من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق في كل الأرض، هكذا قال رب الجنود، لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبئون لكم، فإنهم يجعلونكم باطلا يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب، قائلين قولا لمحتقري: قال الرب يكون لكم سلام! ويقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر”. (إرميا 23: 11 – 17).
وفيه أيضا: “لم أرسل الأنبياء، بل هم جروا. لم أتكلم معهم، بل هم تنبئوا. ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي وردوهم عن طريقهم الرديء وعن شر أعمالهم، ألعلي إله من قريب – يقول الرب – ولست إلها من بعيد، إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة أفما أراه أنا؟ يقول الرب. أما أملأ أنا السماوات والأرض؟ يقول الرب: قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبئوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت، حلمت. حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب، بل هم أنبياء خداع قلبهم. الذين يفكرون أن ينسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه كما نسي آباؤهم اسمي لأجل البعل. النبي الذي معه حلم فليقص حلما، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق، ما للتبن مع الحنطة؟ يقول الرب. أليست هكذا كلمتي كنار – يقول الرب – وكمطرقة تحطم الصخر؟ لذلك هأنذا على الأنبياء – يقول الرب – الذين يسرقون كلمتي بعضهم من بعض. هأنذا على الأنبياء – يقول الرب – الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال. هأنذا على الذين يتنبئون بأحلام كاذبة – يقول الرب – الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم، وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم، فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة؟! يقول الرب. أما وحي الرب فلا تذكروه بعد؛ لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا”. (إرميا 23: 21 – 36).
ونجد فيه أيضا: “كيف تقولون نحن حكماء. وشريعة الرب معنا؟ حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب”. (إرميا 8: 8).
وفي سفر إشعياء نجد تغيير وتبديل الشرائع: “والأرض تدنست تحت سكانها؛ لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعوقب الساكنون فيها، لذلك احترق سكان الأرض وبقي أناس قلائل”. (إشعياء 24: 5، 6)[30].
هذه هي نصوص التوراة نفسها، قد أقرت بوجود التحريف فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلا يوجد في التوراة نفسها أية إشارة إلى عصمتها من التحريف أوالتبديل أو كتمان بعض النصوص. ومن ثم فلا عجب أن يجحد اليهود نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وإنكار بشارة الأنبياء به، ويكتموا هذه البشارات ويحرفوا المقصود منها.
يقول ابن القيم: “وكيف ينكر من هذه الأمة الغضبية قتلة الأنبياء الذين رموهم بالعظائم، أن يكتموا نعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصفته، وقد جحدوا نبوة المسيح ورموه وأمه بالعظائم، ونعته والبشارة به موجود في كتبهم؟ ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته، وإنكار بشارة الأنبياء به، وهو الذي لم يفعل بهم ما فعله بهم محمد – صلى الله عليه وسلم – من القتل والسبي وغنيمة الأموال، وتخريب الديار، وإجلائهم منها، فكيف لا تتواصى هذه الأمة بكتمان نعته وصفته، وتبدله من كتبها؟
وقد عاب الله سبحانه عليهم ذلك في غير ما موضع من كتابه الكريم، ولعنهم عليه، ومن العجيب أنهم والنصارى يقرون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، واليهود تقر أن السبعين كاهنا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم، حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيديهم، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله، فلا يؤمن منه تحريف غيره، واليهود تقر – أيضا – أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة، وبدلوها تبديلا ظاهرا، وزادوا ونقصوا، والسامرة تدعي ذلك عليهم”.
وأما الإنجيل فإن الذي بأيدي النصارى منه أربعة كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال: متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا. فكيف ينكر تطرق التبديل والتحريف إليهما[31]؟
ماذا يقول علماؤهم؟
وهذه هي بعض من آراء علماء اليهود والنصارى وأحبارهم، تعترف بتحريف الكتاب المقدس بعهديه: القديم، والجديد؛ ففي كتاب له بعنوان “هل الكتاب المقدس كلام الله”، وإجابة عن هذا السؤال، يقول عالم مسيحي مشهور، هو د. جراهام سكروغي من معهد مودي في مدينة شيكاغو: “إنه من وضع البشر إلا أنه سماوي”، ويقول أيضا: “نعم، إن الكتاب المقدس من وضع البشر، ولو أن البعض ينكرون ذلك لشدة تعصبهم. لقد مرت هذه الأسفار في عقول البشر وكتبت بلغة البشر ودبجت بأقلامهم وبأساليبهم الخاصة”.
ويقول عالم مسيحي آخر مشهور هو كنث كراغ مطران القدس الإنجليكاني في كتابه “نداء المئذنة” عن الكتاب المقدس ما نصه: “إنه نتاج ملخص، مكثف، محرر, مختار، منسوخ، وكلمات شهود في أسفار العهد الجديد. إن هذه الأسفار خلاصة تجربة وتاريخ”. إن لهذه الكلمات معاني واضحة، فهل نحتاج إلى إيضاح أكثر لمعرفة الحقيقة؟[32].
ويقول مجموعة من علماء الدين المسيحي عن الكتاب المقدس “نسخة الملك جيمس”، التي تعد من أدق النسخ، وقد لاقت ثناء كبيرا من علماء اللاهوت، يقولون: “إلا أن في نسخة الملك جيمس هذه عيوبا خطيرة مهلكة وهي عديدة، مما يستدعي إعادة التعديل والتنقيح”. ليس هذا الكلام لنا، بل هي أقوال لعلماء المسيحية، بل ولأكثر علمائهم شهرة؛ فمن أفواههم ندينهم[33]!
ويؤكد تشيندورف الذي عثر على نسخة سيناء – أهم النسخ للكتاب المقدس – في دير سانت كاترين عام 1844م، والتي ترجع إلى القرن الرابع: “إنها تحتوي على الأقل على 16000 تصحيح ترجع على الأقل إلى سبعة مصححين أو معالجين للنص، بل قد وجد أن بعض المواقع قد تم كشطها ثلاث مرات وكتب عليها للمرة الرابعة”.
وقد اكتشف ديلتش أحد خبراء العهد القديم، وأستاذ متخصص في اللغة العبرية، حوالي 3000 خطأ مختلف في نصوص العهد القديم التي عالجها بإجلال وتحفظ.
ويقول القس شورر: “إن الهدف من القول بالوحي الكامل للكتاب المقدس، والمفهوم الرامي إلى أن يكون الله هو مؤلفه هو زعم باطل ويتعارض مع المبادئ الأساسية لعقل الإنسان السليم، الأمر الذي تؤكده لنا الاختلافات البينة للنصوص؛ لذلك لا يمكن أن يتبنى هذا الرأي إلا إنجيليون جاهلون، أو من كانت ثقافتهم ضحلة”.
وحتى أشهر آباء الكنيسة أوجستين قد صرح بعدم الثقة في الكتاب المقدس لكثرة الأخطاء التي تحتويها المخطوطات اليدوية[34].
وقد ذكرت مجلة “استيقظوا” وهي مجلة طائفة مسيحية تدعى “شهود يهوه” تصدر في نيويورك في مقال بعنوان: “50000 خطأ في الكتاب المقدس” أنه: “ربما هناك خمسون ألف خطأ – ربما تسرب الخطأ إلى نصوص الكتاب المقدس – خمسون ألف عيب خطير، لكن الكتاب المقدس ككل فهو صحيح” [35]!
والجدير بالذكر في موضوع التحريفات هذا أن علماء اللاهوت يجمعون اليوم على أن أجزاء مختلفة من الكتاب المقدس لم يكتبها المؤلفون الذين يعزى إليهم أسماء هذه الكتب.
لذلك يعقد الإجماع اليوم على أنه: لم تكتب كتب موسى – وهي الكتب الأولى من الكتاب المقدس: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية – بواسطته على الرغم من أن موسى يتكلم إلى حد ما بضمير المتكلم. كذلك يطلق كثيرا في الكتاب المقدس على الزبور “زبور داود”، والتي لا يمكن أن يكون داود – عليه السلام – هو قائلها. كذلك لا ينبغي أن تنسب أقوال سليمان إليه. ومن المسلم به أيضا أن جزءا يسيرا فقط من كتاب إشعياء يمكن أن ينسب إليه. وكذلك يبدو أن إنجيل يوحنا لم يكتبه يوحنا الحواري. كذلك لم يكتب القديس بطرس الخطابات التي نسبت إليه لإعلاء مكانتها. ويمكن أن يقال الشيء نفسه على خطاب يهوذا وعلى خطابات بولس الوهمية المختلقة.
وهذا الواقع يكفي لإثبات التحريفات الكبيرة البينة والمعتمدة التي لحقت بالنصوص، والتي لا يمكن لإنسان عاقل أن يدعي أن الله – تبعا للتعاليم الكاثوليكية: هو مؤلف كل أجزاء هذا الكتاب المقدس – قد أوحى بكل هذه التحريفات إلى كاتبيها، أو يدعي أنه لم يعرفها أفضل من ذلك[36].
هذه هي شهادات القوم على كتابهم المقدس، وإن كنا نعتقد اعتقادا جازما أن ما ذكره القرآن وحده كاف لإثبات تحريف الكتاب المقدس، ومن ثم فلا عجب أن يتواصى أحبار اليهود، ورهبان النصارى بإخفاء المبشرات الصريحة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأن يتفقوا على محو اسمه من كتبهم، بسبب الحقد على نبي الإسلام وعداوتهم له؛ لأن من تجرأ على تحريف موضع واحد من كتاب الله، ليس بعيدا عليه أن يحرف غيره من المواضع، وقد صدق الله حين قال: )الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)( (البقرة).
رابعا. على الرغم من تحريف الكتاب المقدس، فإنه لا يخلو من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم:
ابتداء لا يظنن أحد أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام، إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام في دعواه الرسالة، فرسول الإسلام ليس في حاجة إلى تلك البشارات، حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها؛ فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره[37].
البشارات في التوراة:
تعددت البشارات برسول الإسلام في التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصا احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه – صلى الله عليه وسلم – ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها “الأصلي” من حملها على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأن حملها على غيره متعذر، أو متعسر، أو محال.
فهي أشبه ما تكون برسالة مغلقة محي عنوانها، ولكن صاحب الرسالة قادر – بعد فضها – أن يثبت اختصاصها به – صلى الله عليه وسلم – لأن الكلام الداخلي الذي فيها يقطع بأنها له دون سواه؛ لما فيها من قرائن وبينات واضحة نعرض – فيما يأتي – بعضا منها:
“وهذه هي البركة التي بارك بها موسى – رجل الله – بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران”. (التثنية 33: 1، 2). في هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى – عليه السلام – التي تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى – عليه السلام – وساعير هي قرية مجاورة لبيت المقدس، حيث تلقى عيسى – عليه السلام – أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وجبل فاران هو المكان الذي تلقى فيه – صلى الله عليه وسلم – أول ما نزل عليه من الوحي، وفاران هي مكة المكرمة مولد محمد – صلى الله عليه وسلم – ومنشؤه ومبعثه.
ومع ما في النص من بشارتين، فإن موقف اليهود منهما النفي، فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفي – عندهم – خاص ببشارة رسول الإسلام، ولهم في ذلك مغالطات عجيبة، حيث قالوا إن فاران هي إيلات وليست مكة، وأجمع على هذا الباطل واضعو كتاب قاموس الكتاب المقدس، وهدفهم منه واضح، إذ لو سلموا بأن فاران هي مكة المكرمة، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام، وقطع الرقاب عندهم أسهل عليهم من الإذعان له، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس.
ولم يقتصر ورود ذكر فاران على هذا الموضع من كتب العهد القديم؛ فقد ورد في قصة إسماعيل – عليه السلام – مع أمه هاجر؛ تقول التوراة: إن إبراهيم – عليه السلام – استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هي وابنها، فنزلت وسكنت في برية فاران على أنه يلزم من دعوى واضعي قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات، أن الكذب باعترافهم وارد في التوراة؛ لأنه لم يبعث نبي من إيلات حتى تكون البشارة صادقة، ومستحيل أن يكون هو عيسى – عليه السلام – لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير، وليس بإيلات.
فليست فاران إلا مكة المكرمة باعتراف الكثير منهم، وجبل فاران هو جبل النور الذي به غار حراء، الذي تلقى فيه رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – بدء الوحي. وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة فاران أشهر من الشمس.
ثم إن ترتيب الأحداث الثلاثة في العبارة المذكورة: جاء من سيناء، وأشرق من ساعير، وتلألأ من فاران، هذا الترتيب الزمني دليل ثالث على أن عبارة: “تلألأ من جبل فاران” تبشير قطعي برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض النسخ كانت العبارة: “واستعلن من جبل فاران” بدل “تلألأ”.
وأيا ما كان اللفظ فإن “تلألأ” و “استعلن” أقوى دلالة من “جاء” و “أشرق” وقوة الدلالة هنا ترجع إلى المدلولات الثلاثة، فالإشراق جزء من مفهوم المجيء، بدليل قوله تعالى: )وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69() (الزمر) وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى عليهما السلام. أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام، رسولا ورسالة وأمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة – فاران هي إيلات – لها مثيل فيما زعمته التوراة من أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هي وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه سارة طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك الرب في المكان المعروف الآن ببئر سبع، وأنها سميت بذلك لذلك، وكما كذبت فاران دعوى إيلات كذبت زمزم الطهور دعوى بئر سبع، وستظل فاران – مكة المكرمة – وزمزم الطهور عملاقين تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجيء نص آخر في التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – مهما غالط المغالطون، وهو قول الله لموسى حسب ما تروي التوراة: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه”. (التثنية 18: 18، 19).
حدث هذا حسب روايات التوراة، وعدا من الله لموسى في آخر عهده بالرسالة، وكان يهمه أمر بني إسرائيل من بعده، فأعلمه الله – حسب هذه الرواية التوراتية – أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد وقف أهل الكتابين – اليهود والنصارى – موقفين مختلفين هدفهما واحد، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام. أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الرأي الأول: أن العبارة نفسها ليست خبرا، بل هي نفي، ويقدرون قبل الفعل “أقيم” همزة استفهام ويكون الاستفهام معها إنكاريا، وتقدير النص عندهم هكذا: “أأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك..”؟! ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم؟ أي: لا أفعل هذا.
وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها؛ وذلك لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفيا فعلا، ولو كان الكلام نفيا لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
“ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه”. فهذا المقطع إثبات قطعا؛ فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله، فدل هذا العطف على أن المقطع السابق وعد خبري ثابت لا نفي، ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام.
الرأي الثاني: وفيه استشعار من اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا: لا مانع أن يكون النص خبرا ووعدا مثبتا، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم – عليه السلام – ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – بل المراد به نبي من أنبياء إسرائيل، يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل!!
موقف النصارى: أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى – عليه السلام – وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا من قبل أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بني إسماعيل، بل من بني إسرائيل، ومحمد إسماعيلي فكيف يرسل الله إلى بني إسرائيل رجلا ليس منهم؟!
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل باطل، ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه، أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – لأنه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بني إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى – عليه السلام – صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله، وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون، ولا في صموئيل كما يدعي اليهود في أحد قوليهم. ولا في عيسى – عليه السلام – كما يدعي النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بني إسرائيل ليسوا من وسط إخوة بني إسرائيل، ولو كان المراد واحدا منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبيا منهم؟! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: 2). وكما حكى القرآن على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: )ربنا وابعث فيهم رسولا منهم( (البقرة: 129).
وأما انتفاء الشرط الثاني فلأنه لا صموئيل، ولا يوشع، ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل موسى عليه السلام؛ فموسى كان صاحب شريعة، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى – عليه السلام – من بني إسرائيل لم يكن واحد منهم صاحب شريعة، وإنما كانوا على شريعة موسى – عليه السلام – وحتى عيسى ما جاء بشريعة، ولكن جاء متمما ومعدلا، فشريعة موسى هي الأصل.
إن عيسى – عليه السلام – كان مذكرا لبني إسرائيل، ومجددا الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام!! فالمثلية بين هؤلاء – وهي أحد شرطي البشارة – وبين موسى – عليه السلام – لا وجود لها.
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – فهو من نسل إسماعيل، وإسماعيل أخو إسحاق، الذي هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل، فهو من وسط إخوة بني إسرائيل – بني عمومتهم – وليس من بني إسرائيل أنفسهم؛ وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطي البشارة.
ومحمد – صلى الله عليه وسلم – صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها، جمعت فأوعت، مثلما كان موسى أكبر رسل بني إسرائيل صاحب شريعة مستقلة لها منزلتها التي لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثاني من شرطي البشارة وهو المثلية بين موسى – عليه السلام – ومحمد صلى الله عليه وسلم، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
لقد ورد في المزامير المنسوبة إلى داود – عليه السلام – كثير من العبارات التي لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول داود كما تروي التوراة: “أنت أبرع جمالا من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاءك. وبجلالك اقتحم. اركب. من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف. نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك. شعوب تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك…
اسمعي يا بنت وانظري، وأميلي أذنك، وانسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها. بملابس مطرزة تحضر إلى الملك. في إثرها عذارى صاحباتها. مقدمات إليك. يحضرن بفرح وابتهاج. يدخلن إلى قصر الملك. عوضا عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض. أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد”. (المزامير 45: 2 – 17).
وقفة مع هذا الكلام:
في المقطع الأول: لا تنطبق الأوصاف التي ذكرها داود إلا على رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – فهو الذي قاتل بسيفه في سبيل الله، وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء؛ لأنه خاتم النبيين، ورسالته عامة خالدة: قال عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام في القرآن الحكيم، وفي أحاديثه وتوجيهاته التي بلغت مئات الآلاف وتعددت المصادر التي سجلتها، وفيها من روائع البيان، وصفاء الألفاظ، وشرف المعاني ما ليس في غيرها.
أما المقطع الثاني: فهو أوصاف للكعبة الشريفة، فهي التي تترضاها الأمم بهدايا، وهي ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة، وهي التي يذكر اسمها في كل دور فدور، وتأتيها قوافل الحجيج رجالا ونساء من كل مكان فيدخل الجميع في قصر الملك، ويحمدها الناس إلى الأبد؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن، وفي مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة.
ورسالة خالدة لم ينته العمل بها بوفاة رسولها، كما هو الحال فيما تقدم، وإنما هي دين الله إلى الأبد الأبيد.
إشعياء وسفره من أطول أسفار العهد القديم مليء بالإشارات الواضحة التي تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولولا التطويل لذكرنا من ذلك الكثير، ولذا فإننا نكتفي بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول: “قومي استنيري، لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك. لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك.
ارفعي عينيك حواليك وانظري. قد اجتمعوا كلهم. جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي. حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع؛ لأنه تتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم. تغطيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبا ولبانا، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك. تصعد مقبولة على مذبحي، وأزين بيت جمالي. من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟ إن الجزائر تنتظرني، وسفن ترشيش في الأول، لتأتي ببنيك من بعيد وفضتهم وذهبهم معهم، لاسم الرب إلهك وقدوس إسرائيل، لأنه قد مجدك. وبنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك. لأني بغضبي ضربتك، وبرضواني رحمتك. وتنفتح أبوابك دائما. نهارا وليلا لا تغلق. ليؤتى إليك بغنى الأمم، وتقاد ملوكهم”. (إشعياء 60: 1 – 11).
وبلا أدنى ريب نقول: إن هذا الكلام المنسوب إلى إشعياء وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة؛ فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان، وفيه لمحة قوية جدا إلى نحر الهدي صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار، وقيدار هو ولد إسماعيل – عليه السلام – الذي تشعبت منه قبائل العرب؟ ثم ألم ينص على المذبح الذي تنحر عليه الذبائح؟
كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة، وتلك الإشارات هي طرق حضور الحجاج إليه، ففي القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال، ثم السفن، أما في العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوي “الطائرات”، وبشارة إشعياء تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتي:
- الجمال: قال فيها: تغطيك كثرة الجمال.
- السفن: قال فيها: وسفن ترشيش تأتي ببنيك من بعيد.
- النقل الجوي: وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.
أليس هذا أوضح من الشمس في كبد السماء؟!
هذا والنص مليء بعد ذلك بالدقائق والأسرار، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلا ونهارا لكل قادم في حج أو عمرة. ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان، والقرآن يقرر هذا المعنى في قول الله عز وجل: )أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء( (القصص: 57).
ومنها أن بني الغريب – يعني غير العرب – يبنون أسوارها، وكم من الأيدي العاملة الآن، وذوي الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض، وتحت الأرض، ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت في محنة من أهلها، أو من غير أهلها إلا هذه العاصمة المقدسة، فظلت بمأمن من غارات الغائرين، وكيد الكائدين، ومثلها المدينة المنورة.
ومنها كثرة الثروات التي من الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التي تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيونا دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم؟ أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق لا تقبل الجدل، ومع هذا فإن أهل الكتاب – وخاصة اليهود – يحملون هذه الأوصاف على مدينة صهيون، ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم. ولكننا نضع الأمر بين يدي المنصفين من كل ملة: أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة صهيون؟
لقد خرب بيت الرب في القدس مرارا وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور، أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء، ثم أين ثروات البحر والبر التي تجبى إلى تلك المدينة، وأهلها – إلى الآن – يعيشون عالة على صدقات الأمم؟!
وأين هي المواكب التي تأتي إليها برا، وبحرا، وجوا؟ وهل أبوابها مفتوحة ليلا ونهارا؟ وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها؟! وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها، وأين هو التسبيح الذي يشق عنان السماء منها؟! وأين.. وأين؟
إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول، فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذي تدافع عنه. والفاصل بيننا – في النهاية – هو الله الذي لا يبدل القول لديه.
وتنسب التوراة إلى نبي يدعى “حبقوق” من أنبياء العهد القديم، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات، تنسب إليه التوراة نصوصا كان يصلي بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره، وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وإليكم مقاطع منه: “الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران – سلاه – جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم. مسالك الأزل له… الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك، بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم، خرجت لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك، سحقت رأس بيت الشرير معريا الأساس حتى العنق – سلاه – ثقبت بسهامه رأس قبائله، عصفوا لتشتيتي. ابتهاجهم كما لأكل المسكين في الخفية، سلكت البحر بخيلك”. (حبقوق 3: 3 – 15).
ولا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات، ومعاني التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – فالجهتان المذكورتان في مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعني اليمن، وجبل فاران: يعني جبل النور الذي بمكة المكرمة التي هي فاران، هاتان الجهتان عربيتان، وهما رمزان لشبه الجزيرة العربية التي كانت مسرحا أوليا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فليس المراد إذن نبيا من بني إسرائيل؛ لأنه معلوم أن رسل بني إسرائيل كانت تأتي من جهة الشام شمالا، لا من جهة بلاد العرب، وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة التي تقدم ذكرها من سفر التثنية، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسى – عليه السلام – والتبشير بعيسى – عليه السلام – وبمحمد صلى الله عليه وسلم، أما بشارة حبقوق فهي خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن في كلام حبقوق إلا هذا التحديد لكان ذلك كافيا في اختصاص بشارته برسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى.
منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.
ومنها: دكه – صلى الله عليه وسلم – لعروش الظلم والطغيان، وقهر الممالك الجائرة.
ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر، وهذا لم يحدث إلا في ظل رسالة الإسلام[38].
البشارات الإنجيلية:
جاء في إنجيل يوحنا: قال المسيح: “وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني، وليس أحد منكم يسألني: أين تمضي؟ لكن لأني قلت لكم، هذا قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم”. (يوحنا 16: 5 – 7)، ويأتي المعزي: بمعنى روح الحق الذي يفرق بين الحق والباطل.
أجل.. إن رسول الله هو روح الحق؛ ذلك لأن القلوب الميتة لا تحيا إلا بالحق الذي جاء به، وقد بذل كل شيء، وكافح لكي يوصل الهداية إلى الناس، ولم يتميز الحق عن الباطل إلا بعد هذا الجهاد وهذا الكفاح، إذن، فقد جاء المعزي الذي بشر به المسيح – عليه السلام – وهو خاتم النبيين والمرسلين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في إنجيل يوحنا أيضا: “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد”. (يوحنا 14: 15، 16). والآن لنتأمل هذه الفقرات: “وأما المعزي – الروح القدس – الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم”. (يوحنا 14: 26).
“ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضا؛ لأنكم معي من الابتداء”. (يوحنا 15: 26، 27). “لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم”. (يوحنا 16: 7) [39].
جاء في إنجيل يوحنا قول المسيح عليه السلام: “لا أتكلم أيضا معكم كثيرا؛ لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء”. (يوحنا 14: 30). ونجد أيضا في الزبور: “ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية، وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له؛ لأنه ينجي الفقير المستغيث، والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس، ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا، ويصلي لأجله دائما، اليوم كله يباركه”. (المزمور 72: 8 – 15).
يقول سيدنا عيسى – عليه السلام – للحواريين: “إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك – روح الحق – فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية”. (يوحنا 16: 12 – 14).
ولعلك أيها القارئ العزيز تستطيع أن تجمع بين قول عيسى في هذه الفقرة، وقول موسى في الفقرة التي وردت آنفا: “وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به”. فتجد الأضواء تسلط على نبي سيأتي، من هذا النبي؟ لم يكن موسى، ولم يكن عيسى، فمن هذا النبي الكريم؟ إن الأضواء تتجمع في بؤرة واحدة لتكشف عن شخصية هذا النبي إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعدما ذكرناه من هذه البشارات الواضحة الدلالة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل، فإننا لا نملك إلا القول: بأنه على الرغم من جميع محاولات النصارى واليهود حاليا أو في الماضي من الذين تغلغل الغل والحسد إلى عروقهم ونفوسهم، وعلى الرغم من جميع محاولات التحريف التي قاموا بها، فإن التوراة والإنجيل الموجودين حاليا – يحفلان بالكثير من البشارات حول نبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والعديد من الإشارات إليه، ونعتقد أنه بمجهود المنصفين من المؤرخين قد نعثر على نسخ التوراة والإنجيل والزبور الأقل تعرضا للتحريف، وعندئذ سيرى فيها الجميع، حتى العامة من الناس الإشارات الواضحة التي لا تحتاج إلى أي تفسير أو تأويل حول نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم [40].
الخلاصة:
- إن قوله عز وجل: )اسمه أحمد( لا يحمل على ما يتبادر من لفظ “اسم” من أنه “العلم”، فكلمة “اسم” لها عدة استعمالات عند العرب، وتختلف دلالة الوصف “أحمد” مع كل استعمال منها؛ فقد يكون معناه: أحمد مني، أي: أفضل من عيسى – عليه السلام – في رسالته وشريعته، أو أن المعنى: أن سمعته محمودة وذكره محمود في كل الأجيال، وقد يكون المعنى أن اسمه العلم يكون بمعنى أحمد، أي: المحمود حمدا كثيرا.
- لقد أشار القرآن الكريم في آيات عديدة إلى تحريف التوراة والإنجيل، سواء كان هذا التحريف تحريفا للفظ أو تحريفا للمعنى، كما نص على وجود أجزاء كتمها اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل كما في قوله عز وجل: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( (الأعراف: ١٥٧)،وكما شهد القرآن والمسلمون بتحريف الكتاب المقدس شهد كذلك الكتاب المقدس على نفسه في مواضع كثيرة بثبوت تحريفه.
كما توصل مجموعة كبيرة من علماء اللاهوت أنفسهم إلى أن الكتاب المقدس يحتوي على أخطاء مهلكة وآلاف من التغييرات والتزويرات، فلا عجب أن يمحو اليهود والنصارى اسم النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – من كتبهم المقدسة وأن يكتموا البشارات الصريحة به صلى الله عليه وسلم.
- إن المتأمل في السيرة النبوية المطهرة وكتب الحديث ودواوين التاريخ يجد العديد من الأدلة على تواطؤ اليهود والنصارى على محو اسم النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – من التوراة والإنجيل باعتراف من أسلم منهم؛ كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، والنجاشي، وغيرهم، وقد سأل عمر بن الخطاب أبا مالك بن ثعلبة بن هلال، وكان من أحبار اليهود عن صفات النبي في التوراة، فقال: “إن صفته في كتاب بني هارون الذي لم يبدل ولم يغير أحمد من ولد إسماعيل يأتي بدين الحنيفية دين إبراهيم يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه وهو آخر الأنبياء” [41].
- على الرغم من تحريف الكتاب المقدس، فإنه ما يزال به العديد من البشارات بالرسول – صلى الله عليه وسلم – والتي أخفى اليهود والنصارى عنوانها، وحاولوا صرف دلالاتها عن البشارة به – صلى الله عليه وسلم – ولكن على الرغم من هذا، فقد ظلت عشرات المبشرات التي لا يمكن أن تنطبق على أحد إلا على محمد – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل، والتي لم يستطع اليهود والنصارى إخفاءها أو تبديلها، وستظل مثل هذه المبشرات التي عجزوا عن إخفائها شاهدة على تلك التي أخفوها.
(*) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن القيم، تحقيق: أحمد حجازي السقا، المكتبة القيمة، القاهرة، 1407هـ. موجز دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة مستشرقين، مركز الشارقة، الإمارات، 1418هـ/ 1988م.
[1]. الكتاب المقدس: عند اليهود هو العهد القديم الذي يضم أسفار التوراة وأسفار أنبياء بني إسرائيل قبل المسيح، وعند النصارى هو مجموع العهدين: القديم والجديد الذي يضم الأناجيل التي كتبت بعد المسيح.
[2]. العاقب: خاتم الأنبياء الذي لا نبي بعده.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3339)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم (6252).
[4]. سمى: لغة في اسم.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص181: 185 بتصرف يسير.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3556.
[7]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص21 وما بعدها.
[8]. يجتزئ بالبلغة: يقنع بما يكفي لسد حاجته ولا يفضل عنها.
[9]. يدال عليهم: تكون له الدولة، أي النصرة عليهم.
[10]. الحرز: الحافظ.
[11]. سخاب: عالي الصوت.
[12]. الملة العوجاء: ملة العرب، سميت بالعوجاء لما دخلها من عبادة الأصنام.
[13]. قلوب غلف: كأن عليها غطاء فهي لا تستمع إلى الحق.
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق (2018)، وفي موضع آخر.
[15]. الزاملة: ما يحمل عليه من الإبل وغيرها.
[16]. طابة: طيبة، وهي من أسماء المدينة المنورة.
[17]. إسناده صحيح: أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتب قبل مبعثه (5)، وصحح إسناده حسين سليم أسد في تعليقه على مسند الدارمي.
[18]. الجلوبة: ما يجلب من إبل وغنم ومتاع للتجارة.
[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23539)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3269).
[20]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري رضي الله عنه (24030)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة (7162)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد.
[21]. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، ذكر علامات النبوة في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يوحى إليه (1/ 165).
[22]. عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بيومي، دار مكة للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص94: 106 بتصرف.
[23]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رفاعة بن شداد عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه (23788)، والبزار في مسنده، مسند سلمان الفارسي (2500)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (894).
[24]. عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بيومي، دار مكة للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص90، 91.
[25]. إسناده جيد: أخرجه سعيد بن منصور في سننه، كتاب الوصايا، باب رسائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوته (2481)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (4400)، وجود إسناده الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 66).
[26]. تجشم: قصد.
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707)، واللفظ للبخاري.
[28]. عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بيومي، دار مكة للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص110، 111.
[29]. رد القرآن والكتاب المقدس على أكاذيب القمص زكريا بطرس، إيهاب حسن عبده، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص83، 84 بتصرف.
[30]. رد القرآن والكتاب المقدس على أكاذيب القمص زكريا بطرس، إيهاب حسن عبده، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص88، 89 بتصرف.
[31]. هداية الحيارى، ابن القيم، تحقيق: أحمد حجازي السقا، المكتبة القيمة، القاهرة، 1407ه، ص207، 208.
[32]. أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص89.
[33]. أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص96 بتصرف.
[34]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، د. روبرت كيل تسلر، ترجمة: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص18 بتصرف.
[35]. أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص99 بتصرف.
[36]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، د. روبرت كيل تسلر، حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، د. روبرت كيل تسلر، ترجمة: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص32، 33.
[37]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص321 بتصرف يسير.
[38]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص321: 333 بتصرف.
[39]. انظر: النبي المرتقب: الانتظار والقدوم، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص64.
[40]. النبي المرتقب: الانتظار والقدوم، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص66، 67 بتصرف.
[41]. الإصابة في تميز الصحابة، ابن حجر، دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ، ج7، ص357.